"طوف وشوف.. شوف هنا جنب المصانع والمداخن والزحام.. الغيطان إلي آخرها المدنة وأبراج الحمام"، كلمات تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم للشاعر عبدالفتاح مصطفى والملحن رياض السنباطي، عام 1964، لتحكي عن أجمل مظاهر ريف مصر والتي بينها أبراج الحمام.
تلك الأبراج كانت في يوم من الأيام، أحد أهم مظاهر الثراء، إذ لم يكن يخلو قصر أو دوار أو مزرعة من تلك الأبراج التي مثلت طوال عصور ممتدة إحدى أهم المشروعات الريفية المنتجة، إلا أنها في العقود الأخيرة طالتها يد الإهمال التي ضربت كل جميل في ريف مصر.
كما أن مهنة تربية الحمام في منازل المصريين تراجعت بشكل كبير، إذ أنه بعدما كانت كل سيدة تخصص مكانا في بيتها لتعليق قطع من الفخار كأعشاش للحمام؛ تراجع ذلك الدور بشكل لافت لحساب تربية الدواجن.
"تاج أبيض"
من منطقة البساتين التابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية والمطلة على ترعة الإسماعيلية، بدا لافتا مشهد أبراج الحمام التراثية العملاقة لكل مرتادي طريق القاهرة الإسماعيلية الزراعي، كأنها تيجان بيضاء عملاقة تزين جبين الأرض وتخترق السماء.
اظهار أخبار متعلقة
"عربي لايت"، أثارها هذا المشهد الرائع الذي يبدو منه نحو 45 برجا لتربية الحمام يرجع تاريخها لأكثر من 80 عاما، ما يجعلها من المباني التراثية النادرة في الريف المصري، والتي تتعرض للإهمال وتغيب عن أنظار القائمين على الجهاز القومي للتنسيق الحضاري.
أحد العاملين المسؤولين عن أبراج الحمام، العم أحمد، يقول لـ"عربي لايت"، إن "هذه الأبراج بنيت قبل 80 عاما تقريبا، من الطوب اللبن، وهي دائرية الشكل ويبلغ قطر قاعدتها 5 أمتار، بارتفاع نحو 8 أمتار، ولها باب واحد، وفتحات كثيرة، فيما يقل قطر فوهتها لتصل نحو 2 متر".
ويصف الأبراج من الداخل، موضحا أن "بها حوالي 500 قطعة فخارية يسكن فيها نحو 250 زوج من الحمام ويبيض ويتزاوج بها واسمها (القواديس) أو (البناني) أو (زلعة)، وبها فتحات يخرج منها الحمام ليحصل على طعامه وشرابه من المنطقة المحيطة ثم يعود بعدما يشبع".
ويشير إلى أنهم "كل 3 أيام يقومون بجمع (الزغاليل) أو الحمام الصغير كي يبيعونه للمطاعم والسوبر ماركت والفنادق، بسعر ما بين 25 جنيها (1.6 دولار) إلى 50 جنيها (3.2 دولار) وأحيانا يصل إلى 70 جنيها نحو (5 دولار)".
ويؤكد أنه "عند جمع الحمام هناك عمال متخصصون يتسلقون القطع الخشبية الموجودة في جدار الأبراج من الداخل، ويختارون بعناية (الزغاليل) ويتركون الصغير منها حتى يكبر، ويقومون بعملية تنظيف (البناني) من البيض الفاسد ومن مخلفات وحشرات تضر الحمام".
اظهار أخبار متعلقة
ويضيف أنهم لا يطعمون الحمام ولا يتدخلون في الأمر بل يتركونه يسرح وعندما يشبع ويشرب يعود إلى "البناني"، موضحا أن "تكلفة الإطعام كبيرة لو قاموا بها خاصة في ظل ارتفاع أسعار الحبوب".
ويعتقد العم أحمد، أن "الأبراج القديمة تاريخ كبير لا يمكن تعويضه، وأنه للأسف فإن البرج الذي ينهار لا يمكن بناء آخر مكانه، وأنها طالتها يد الإهمال من مالكيها الذين ينشغلون بأمور أخرى غير ما كان يفعل الجد مؤسس تلك الأبراج".
ويوضح أن "عمليات بناء أبراج جديدة ليست رائجة وتجري بالطوب الأبيض (الدبش)، وهو غير آمن أو ملائم لحياة الحمام كالطوب اللبن والطين الثابت، لافتا إلى أن "بناء برج صغير ليس بحجم هذه الأبراج من الطوب الأبيض يكلف نحو 50 ألف جنيه (أكثر من 3 آلاف دولار)".
"الحرمة" و"الجيران"
محمد عزب، أحد المهتمين بتربية الحمام والطيور، يقول لـ"عربي لايت": "فكرت جيدا في بناء برج فوق بيتي الكائن في قرية ريفية، وتواصلت مع البناء المختص في تشييد الأبراج، ولكن واجهتني مشكلتين أساسيتين".
ويوضح أن "الأولى هي أن بعض الجيران قد يرفضون هذا المشروع بجوار منازلهم خوفا من انتشار الحشرات مثل "الفاش" وكذلك الأمراض المعدية والرائحة غير الكريهة".
والثانية أن "هناك مخالفة شرعية كبيرة، لأن حمام الجيران سوف يلجأ إلى البرج ويترك أعشاشه لدى الجيران"، وفق عزب.
ويلفت إلى أنه سأل أحد مشايخ الأزهر، وأكد له أنها "مخالفة كبيرة، وخاصة أنه لا يمكن لصاحب البرج منع حمام الجيران من الدخول للبرج أو فصله عن حمام برجه".
اظهار أخبار متعلقة
ويوضح أن "البديل السهل الآن هو تربية الطيور الداجنة والسمان في حجرات صغيرة ملحقة بالمنازل أو فوق الأسطح، كما أن خبرة سيدات اليوم بتربية الحمام تكاد تكون منعدمة".
"تاريخ عريق"
لأبراج الحمام تاريخ عريق في الدولة المصرية، حيث اهتم به ملوك وأمراء وقادة مصر خاصة مع استخدام الحمام الزاجل في الرسائل، إذ حوت قلعة صلاح الدين الأيوبي العديد من الأبراج لتربية الحمام، لاستخدامه في نقل رسائل الدولة.
فيما كانت حادثة دنشواي عام 1906، من أهم الحوادث في التاريخ المصري الحديث والتي ارتبطت بأبراج الحمام، حينما عمد 5 من جنود الاحتلال الإنجليزي في مصر لصيد الحمام بقرية دنشواي بمحافظة المنوفية فقتلوا بعض المصريين برصاصهم بينهم سيدة.
وهي الواقعة التي تفجرت بمطاردة الأهالي للجنود الذين توفي أحدهم بسبب الحر الشديد، ما تسبب في إعدام 4 من الفلاحين، وسجن 32 آخرين بعد محاكم صورية.