لا تكاد تنتهي رائحة الخشب المحترق المتسربة من "مكامير" الفحم المتراصة على طريق القاهرة- الإسماعيلية الزراعي (شمال شرق القاهرة)؛ إلا وتأتيك رائحة غيرها متسربة من مكمورة أخرى من بين المئات المنتشرة على جانب الطريق.
رواد ذلك الطريق، ورغم ما يخرج من أدخنة من تلك "المكامير" إلا أن بعضهم أصبح يعشق رائحة الفحم المحترق، ويستمتع بلون المكمورة الأسود وسط الحقول والزراعات ومياه نهر النيل.
اظهار أخبار متعلقة
تماما كما يتمتع الأثرياء بطعم الكباب المشوي على الفحم المنتج في هذه المكامير، وينتشي المدخنون بدخان "معسل" الشيشة المشتعل بفحم المشمش والبرتقال.
أسماء حسني، إحدى من مرتادي ذلك الطريق لسنوات، تقول: "صباحا ومساء أختلس نظرة من خلف زجاج السيارة لأستمتع بمنظر الخشب المتراص، ثم أفتح الزجاج لأتشمم رائحة الدخان المتصاعد ببطء من ثقوب المكمورة، حتى أصبحت أميز أنواع الخشب المحترق عن بعضها".
"مهمة الفحام"
"عربي لايت"، زارت منطقة "مكامير" الفحم في منطقة "أنشاص الرمل" و"الزوامل" المطلة على ترعة الإسماعيلية والتابعة لمركز بلبيس بمحافظة الشرقية، والتي تشكل كتلا سوداء وسط الزراعات الخضراء.
هنا حيث تأتي جذوع الأشجار التي جرى اجتثاثها وتقليمها من جسور الترع والقنوات والمصارف والحدائق في دلتا مصر ومن واديها العتيق، مُحمًلة فوق سيارات نقل كبيرة، ليقوم عمال المكمورة بإنزال الحمولة ورصها بطريقة معينة تمهيدا لبدء تفحيم الأخشاب.
اظهار أخبار متعلقة
يقول مدير إحدى "المكامير" لـ"عربي21": "إنها صنعة وحرفة لها أصولها وقواعدها، حيث نقوم بتقطيع جذوع الأشجار بالمناشير والقواديم إلى قطع صغيرة متماثلة، ثم يتم رصها في المكمورة بطريقة عرضية وطولية".
ويضيف: "ثم يوضع فوق الخشب المرصوص رماد أسود ثم طبقة من التراب ليغطي المكمورة كاملة؛ إلا من فتحة جانبية ضيقة يقوم العاملون بإشعال النار منها، لمدة أسبوعين أو شهر، بحسب نوع الخشب، حتى يتفحم بالقدر المطلوب".
ويوضح أن "هذه مهنة الآباء والأجداد، وأنها ارتبطت بهذا المكان نظرا لكونه غني بأشجار الكافور على طول امتداد ترعة الإسماعيلية (حفرها الخديوي إسماعيل عام 1874)، إلى جانب كثرة أشجار المانجو وحدائق البرتقال التي تشتهر بهما المنطقة منذ عقود طويلة".
ويشير إلى أنهم يستخدمون خشب "الكافور" و"المانجو" و"المشمش" و"البرتقال" و"الجزورين"، وغيرها، ومؤكدا أن الفحم المصري من الأجود في العالم ويجري تصديره لدول عربية وأوروبية، وهو حتى اليوم صامد أمام منافسة الفحم الصيني أو الفحم الحجري.
اظهار أخبار متعلقة
ويلفت إلى أنهم "الآن في فترة توقف عن التفحيم بقرار من الدولة من منتصف آب/ أغسطس وحتى نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام، لتخفيف تلوث البيئة بالتزامن مع موسم جني الأرز وحرق الفلاحين للقش الذي يسبب سحابة سوداء سنويا فوق القاهرة".
"للكباب والشيشة"
وبينما تسير في شوارع القاهرة ومدن وعواصم المحافظات لا تكاد تنتهي رائحة الشواء حيث محلات (الكباب)، فهذا يطلب لحم مشوي على الفحم، وهذا يأمر بدجاج مشوي على الفحم، وذلك يرغب في سمك مشوي على الفحم، فيما تغطي رائحة الشواء اللذيذة على رائحة الفحم.
ولا تفوتك في شوارع القاهرة رائحة دخان "الشيشة" القادم من المقاهي والكافيهات وعبر أولئك المتجمعون على قارعة الطريق ونواصي الحارات والأحياء الشعبية؛ لكن عينيك لا تخطئ أيضا الفحم المتوهج فوق حجر الشيشة، الذي غطى دخانها أيضا على رائحة الفحم.
أسامة محمد، صاحب سوبر ماركت في مدينة "الخصوص"، شمال القاهرة، يقول لـ"عربي لايت": "نشتري الفحم من مكامير محافظة القليوبية، بالشيكارة التي يبلغ وزنها نحو 25 كيلو بسعر 200 جنيه في المتوسط وبنحو 8 جنيه للكيلو، والذي نبيعه بين 10 و12 جنيها للمستهلك (الدولار يساوي 15.7 جنيها)".
"جودة عالمية"
جودة الفحم المصري جعلته يخترق الأميال ويعبر البحار ليصل إلى دول الخليج العربي، ودول أوروبا، حيث تستورده محال الجزارة والمشويات في مناطق تجمع المصريين في أوروبا، بينها مدينة ميلانو الإيطالية على سبيل المثال.
تنتج مصر نحو 3 بالمئة من إنتاج الفحم العالمي، فيما تحتل المركز الـ11 عالميا في تصدير الفحم النباتي، فيما تحل السعودية بالمرتبة الأولى في قائمة مستوردي الفحم المصري الذي يغطي نسبة 20 بالمئة من احتياجاتها، لتأتي هولندا في المرتبة الثانية بنسبة 11 بالمئة من الإنتاج المصري.
مصر التي تصدر ما يعادل 30 ألف طن في العام الواحد، بها ما يزيد عن 5 آلاف مكمورة أغلبها بمحافظات القليوبية، والبحيرة، والشرقية، والغربية، والمنوفية، وفق تقديرات وزارة البيئة.