عندما يُذكر اسم "الحصري"، في مصر تتحول ذاكرة الناس إلى احتمالين، أولهما أنه اسم لشيخ عموم المقارئ المصرية الشيخ محمود خليل الحصري، (17 سبتمبر 1917 - 24 نوفمبر 1980)، أحد أجمل الأصوات التي قرأت القرآن الكريم تجويدا وترتيلا، وذاع صيته في الآفاق العربية والإسلامية والعالمية.
أما الاحتمال الثاني، فقد لا يعرفه كثير من المصريين، وهو متعلق بمهنة صانع الحصير "الحصري"، تلك المهمة التي كانت تقوم بها قبل عقدين وثلاثة عقود أسر كاملة في ريف وصعيد مصر، فيما يشبه ورشة صغيرة تساعد فيها الزوجة والأبناء الأب في صناعة الحصير، التي يتوارثها الأحفاد كابرا عن كابر، حتى أن الناس كانوا ينسون أسماء تلك العائلات ويطلقون عليهم اسم عائلة "الحصري".
للصلاة وبالأفراح والمآتم
والحصري، رجل كان يجمع نباتا ينبت في الأحراش والمستنقعات وعلى حواف الترع والمصارف وفي الأراضي المنخفضة أو يزرعه بنفسه في منطقة عميقة في الأرض واسمه "السمار"، ليقوم بتجفيفه ثم تقطيعه بشكل طولي ليصنع منه الحصير أو "الشريط" على طريقة النول الخشبي القديم في صناعة المنسوجات، وينسجه بطريقة يدوية.
اظهار أخبار متعلقة
ذلك الحصير بلونه الأبيض الناصع المبهج كان يضعه المصريون في غرفة الجلوس أو حجرة الضيوف أو المسافرين ويجلسون عليه في وسط الدار أو يفرشونه في الدهليز، أو ينامون عليه فوق الأفران القديمة، كونه دافئ في الشتاء وبارد في الصيف.
كما أنه لم تخل قاعة مناسبات أو مضيفة أو مسجدا من شرائط الحصير، التي ظلت حتى عهد قريب هي مصلى المصريين ومجتمع أفراحهم وأحزانهم.
تلك المهنة اندثرت قبل سنوات، بداية مع ظهور الحصير المصنوع من البلاستيك، ثم المفروشات المصنوعة من مادة "الأكريلك"، لتتغير بعدها ذائقة المصريين وطبائعهم في فرش بيوتهم لتتحول مع انتشار السيراميك إلى استعمال السجاد ليختفي الحصير بكل أنواعه.
محاولة للصمود
ولكن بقي هناك من الحصريين من هم متمسكون بتلك المهنة رغم اندثارها، وهنا يقول الأسطي محمد الرجل الثمانيني: "أجاهد لبقاء مهنة الحصري، إذ أنه لا دخل لي من غيرها، ورغم قلة ما أحصل عليه والذي يقل عن 50 جنيها في اليوم إلا أنني مصر على الاستمرار بمهنتي رغم مرضي".
اظهار أخبار متعلقة
ويوضح لـ"عربي لايت"، أن "لتلك المهنة تاريخ وكان لها معلمون كبارا، ولكن انتهى زمنهم وزمن المهنة بسبب ارتفاع سعر السمار، وعدم زراعته كما كان سابقا، وأنه يشتريه من الفيوم بصعيد مصر، حيث تكثر المستنقعات هناك، لافتا لعدم وجود صنايعية في المهنة لقلة ما يحصلون عليه منها".
ويؤكد أن "هناك من يطلب الشرائط الحصير ونقوم بعملها وفق الطلب، ويرتفع سعرها كثيرا عن البلاستيك، إذ يتراوح سعر المتر بين 70 و80 جنيها للمتر أما سعر البلاستيك لا يتجاوز 15 جنيها"، (سعر الدولار نحو 15.65 جنيها).
أحد ملوك صناعة الحصير سابقا في قرية المناصرة التابعة لمركز مشتول السوق بمحافظة الشرقية والشهير قبل سنوات بتلك الصناعة، الحاج علي، يقول لـ"عربي لايت": "ورثت الصنعة عن أبي وجدي، وكان لها زمانها وكان يعمل في ورشتنا عشرات العاملين، ولكن بسبب غلاء سعر السمار وعدم زراعته، اندثرت المهنة".
ويوضح أنه لجأ إلى تجارة الحصير البلاستيك التي يجلبها من المصانع الكبرى، ليعوض خسارته، وأنه يعمل أيضا في توزيع الحصير الخاص بصناعة الجبن البلدي الذي تقوم به الريفيات، وأنه لم يعد هناك صنايعية للعمل في صناعة الحصر.
وجزم بأن الحصير كان في كل بيت وكل جامع ومصلية وفي المضايف وفي الأفراح والمآتم، ولكن لكل شيء نهاية.