تشكل المقاهي في بغداد والتي تسمى في العامية "قوة" وقديما "جايخانة" (خان الشاي) جزءا مهما من تاريخ العراق، لكنها ورغم التراجع الكبير في الدور الذي كانت تشكله بالمجتمع مع دخول الحداثة، لا تزال تمثل معلما تراثيا سياحيا يرتاده الكثيرون بشكل يومي.
ويعتبر المقهى في بغداد منتدىً اجتماعيا يلتقي بهِ الناس للترفيه عن أنفسهم، ومكانا تناقش فيه شؤون أهالي المحلة أو البلدة، إذ أن أول ذكر لمقهى في بغداد ورد عام 1590 من قبل مرتضى نظمي زاده في كتابهِ "كلشن خلفا" أو روضة الخلفاء.
وبلغ عدد المقاهي في بغداد 184 أو 140 مقهى حسب تقارير عامي 1882 و1883، ثم بلغت المقاهي 285 مقهى في عام 1903، ثم وصل العدد إلى 599 مقهى في عام 1934، حسب كتاب "المدن التاريخية في العالم الإسلامي" للمؤلف إدموند بوسورث عام 2007.
ملتقى ثقافي
عند الدخول إلى مقهى "الشابندر" الذي يعتبر واحدا من أقدم المقاهي وأعرقها في بغداد حيث تأسس عام 1917، في شارع المتنبي المطل على نهر دجلة، تشعر بالهدوء رغم كثرة الرواد الجالسين على مقاعده الخشبية المتميزة المعروفة محليا بـ"التخت".
Embed from Getty Images
ولا يزال المقهى يحتفظ بجدرانه الداخلية من الطابوق الأصفر، والذي تغطي معظمه صور من تاريخ بغداد القديم والحديث، وفي زاويته البعيدة موقد للنار يوضع عليه إبريق الشاي (قوري)، وخزان ماء حار ذو صنبور (سماور)، وأقداح الشاي (الاستكان) وفناجين ودلال القهوة العربية.
اظهار أخبار متعلقة
ووسط هذه الأجواء يقول أحد رواد المقهى، علي الساعدي، في حديث لـ"عربي21" إن "هذا المقهى مكان الأدباء والشعراء والمثقفين، ونحن من رواده منذ 10 سنوات، نأتي إلى هنا لنناقش مختلف المواضيع الثقافية والأدبية والفكرية، في أجواء ودية هادئة تشعرني بالراحة النفسية، على عكس المقاهي الشعبية في الأحياء السكنية".
ويطلق على "الشابندر" مقهى "الشهداء" بعد تفجير سيارة مفخخة استهدفته في عام 2007 راح ضحية التفجير 68 عراقيا، بينهم أربعة من أولاد صاحب المقهى، إضافة إلى حفيده، لكن صاحبه الحاج محمد الخشالي أعاد في وقت لاحق ترميمه، وافتتحه من جديد.
"الساعدي" أوضح أن "الكثير من الأدباء والشعراء يتواجدون في هذا المكان، ويتداول فيه مواضيع ثقافية وأدبية حديثة وقديمة، مع الابتعاد عن الجانب السياسي بحثا عن الهدوء والراحة النفسية".
وتمنى الشاب العراقي أن "يعود الأمان إلى بغداد وعموم مدن العراق حتى تعود بقوة أجواء المقاهي الأدبية والثقافية التي اشتهر بها البلد من عشرات السنين، ليستعيد العراق صورته الحسنة في هذا المجال".
مكان للسياح
أما الشاب هاشم الموسوي الذي يرتاد مقهى الشابندر أيضا، فيقول لـ"عربي21" إن "المقهى يستقبل رواده من مختلف الفئات العمرية ومن كلا الجنسين، والكل يطرح ما عنده من شعر وفن وأدب سواء حديث أو قديم، فلكل ما يطرح عشاقه ومحبيه".
"الموسوي" أشار إلى أن الكثير من السياح العرب يأتون لزيارة هذا المكان التاريخي الذي يعود تأسيسه إلى عام 1917، وعاصر أحداثا تاريخية شهدها البلد، وأن الكثير من رواده كانوا من السياسيين وقادة البلد في حقب زمنية مختلفة.
وأضاف الشاب العراقي، قائلا: "نرتاد مقهى الشابندر ليس فقط لاحتساء الشاي والقهوة العربية أو تدخين النارجيلة فقط، وإنما لنشهد النقاشات الأدبية والفكرية والشعرية، إذ لا يكاد هذا المكان يخلوا من هذه الشخصيات المهمة في المجتمع البغدادي".
اظهار أخبار متعلقة
وأشار إلى أن "ما يميز هذا المقهى عن غيره أيضا أن من يرتاده ليس فقط من الرجال، وإنما النساء أيضا يأتين إلى هذا المكان ويجلسن لاحتساء القهوة والتقاط الصور التذكارية، والاستمتاع بالأحاديث الأدبية والثقافية".
وتابع: "لن تجد هناك من يتعصب للفكر السياسي، فالجميع يأتي إلى المقهى ليرتاح عما يجري في الخارج من صخب السياسة، فنحن نريد الابتعاد قدر المستطاع عن الشأن السياسي وتفاصيله المعقدة".
ونوه الموسوي إلى أنه "قبل أيام جرى تأهيل شارع المتنبي، وهذا شيء جميل ويبعث على الأمل إذ أن حملات الإدامة لمثل هذه الأماكن تعيد إليه رونقه وجماله فهو يستحق الكثير حتى يستمر الجميع في ارتياده، ولاسيما السُياح".
أنواع المقاهي
وعن أنواع المقاهي في بغداد وما يميزها عن غيرها، يقول الباحث في علم الاجتماع، عمر خلف لـ"عربي21" إن "المقاهي في بغداد يعود تاريخها إلى العهد العثماني، فالبعض منها تجاوز عمرها القرن والنيف من الزمن".
Embed from Getty Images
ولفت الباحث إلى أن "المقاهي في العراق تنقسم بشكل عام إلى قسمين، الأولى، شعبية تتواجد بين أزقة الأحياء أو المناطق الصغيرة، والثانية، مقاهي تتواجد في المناطق العامة ولكل واحدة من هذين النوعين روادها".
وأوضح أن "المقاهي الشعبية يرتادها أهالي الحيّ من الكادحين والموظفين، وحتى العاطلين عن العمل الذين يتواجدون فيها خلال الفترة الصباحية للبحث عن عمل، لكن الموظفين وأصحاب المهن يرتادونها بعد المغرب عن العودة من العمل وأخذ قسط من الراحة".
وتعتبر هذه المقاهي الشعبية في السابق، بمثابة ملتقيات اجتماعية لأبناء الأحياء الصغيرة، إذ يتواصلون فيها بشكل يومي ومن ينقطع منهم يكون عنده ظرف وغالبية مرضين، فيذهب لزيارته إلى بيته والاطمئنان عليه، وفقا للباحث.
اظهار أخبار متعلقة
وأردف: "إذا حضر شخص غريب إلى المقهى الشعبي يسأل عنه أبناء الحيّ لمعرفة ما إذا كان يسعى إلى حاجة حتى يقضونها له، ولا سيما إذا كان مسافرا من محافظة أخرى، فيستضيفونه في منازلهم، وخصوصا منزل صاحب المقهى".
وأشار إلى أن المقاهي الشعبية في ذلك الزمن كانت تكتظ بأهالي الحيّ في رمضان، فهناك تتلقى القصص من شخص يطلق عليه "القصة خون" الذي يجلس في مكان عال أشبه بالمنبر في إحدى جنبات المقهى، ويروي عليهم القصص التاريخية والشعبية، وذلك قبل أن يظهر عصر التلفاز.
وأفاد الباحث العراقي بأن المقاهي الشعبية تشتهر بإقامة لعبة "المحيبس" التراثية في رمضان (يخبأ خاتم في أيدي شخص من فريق قد يصل إلى 20 شخصا، ويقوم منافس له من فريق آخر بالكشف عنه)، وتوزع حلوى "الزلابية" بين الحاضرين من الفريق الخاسر، وهذه وإن تراجعت بشكل كبير حاليا لكنها لا تزال قائمة.
أما المقاهي العامة الشهيرة التي تتواجد في ميادين وشوارع بغداد الرئيسية، من أمثال مقهى عزاوي في ساحة (ميدان) الشهداء والبيروتي في منطقة الميدان، ومقهى الشابندر في شارع المتنبي، ومقهى أم كلثوم في شارع الرشيد، فهذه ليست مقاهي فحسب، وإنما أشبه بصالونات ومنتديات ثقافية وأدبية وسياسية واقتصادية، وفقا للباحث.
وأشار إلى أن "شخصيات كبيرة من الأدباء والشعراء كانوا يتواجدون في المقاهي العامة، وتتلى قصائدهم أمام رواد هذه المقاهي، لذلك كان زاخرة بالعلم والأدب ومختلف الفنون التي تعبر عن التراث العراقي".
Embed from Getty Images
وتابع: "كذلك كانت هذه المقاهي يرتادها التجار ولا سيما مقهى الشابندر (شاه بندر التجار) ومعناه (أمير التجار) وكانت تجري الصفقات التجارية بمختلف البضائع ولا سيما القماش والمواد الغذائية، فالمقهى قريب على مركز بغداد التجاري مناطق الرصافي والشورجة وشارع الرشيد وشارع النهر".
وبيّن "خلف" أن "المقاهي العامة لا تزال حتى يومنا الحاضر يرتادها من مختلف التوجهات الفكرية والثقافية بالمجتمع، لكن في السابق كانت أيضا تشهد حملات لمرشحي المجالس المحلية والمجالس النيابية (البرلمان)، ولاسيما في مقهى البيروتي، حيث يحضر المرشح للانتخابات ويلتقي بنخبة من المجتمع حتى يروّج لنفسه سياسيا".
ومنذ عهد الملك فيصل الأول أول ملوك العراق عام 1921، ومرورا برئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي نوري السعيد، وصولا إلى عبد الكريم قاسم أول حاكم للعراق بالعهد الجمهوري عام 1958، كانت المقاهي منطلقا للعديد من التظاهرات التي مرت بها البلاد في القرن العشرين.