"طلعة رجب"، تعني زيارة المقابر مع فجر أول أيام رجب، أو فجر أول جمعة فيه، وهي الزيارة التي يتبعها زيارة مماثلة للمقابر مع فجر 27 رجب الموافق لذكرى "الإسراء والمعراج"، والتي يوليها المصريون باحتفال خاص بشراء اللحوم وصناعة الكحك والفطير إلى جانب الصيام والعبادة، وفق حديث سيدات مصريات لـ"عربي21 لايت".
"استعدادات رجبية"
وكان يسبق "طلعة رجب"، و"27 رجب"، استعدادات خاصة حيث كانت الأسر تقوم بشراء الدقيق الناعم أو "الزيرو"، والسمن البلدي أو الصناعي، ويخرجون ما قاموا بتخزينه مما تبقى من محصول البلح وصنعوا منه "العجوة" لهذا اليوم، وذلك بجانب شراء السمسم، وأكياس الخميرة زجاجات الفانيليا، وغيرها من مكسبات الطعم والرائحة.
اظهار أخبار متعلقة
و"كعك رجبية" بالعين في الأولى والتاء المربوطة في الثانية، كما كان ينطقها الأجداد والمسنين والعجائز وتعني كحك رجب، وهي عادة مصرية ضاربة في القدم في الريف المصري حيث كانت ست الدار تبدأ في عمل الكحك والقرص والفطير مع قدوم شهر رجب ونهاية شهر رمضان كل عام.
وفي فرحة لم تكن تخلو منها دار تتجمع النسوة لطحين القمح والذرة، ونخل الطحين، ثم العجين، وصناعة الكحك، وتسويته في الأفران الفلاحي، لتظل الأسرة تتناوله كوجبة إفطار يومية حتى قدوم شهر رمضان.
وكانت تتجمع نساء كل عائلة لعجن الدقيق بالسمن البلدي واللبن الجاموسي أو البقري بعد غيله جيدا، وسط الدار؛ لكن كان توزيع نساء القرية ممن يمتلكن البهائم الألبان على من لا يمتلكون البهائم كهدية أو صدقة أو زكاة عن بهائمها من أجمل المشاركات الاجتماعية بين الأهالي في شهر رجب.
تجمع النسوة لم يكن يخلو من تجمع الأطفال للمشاركة أو مشاهدة الليلة المشهودة كل عام، ويظل الجميع في انتظار العجين في المواجير المصنوعة من الفخار أو من الألومنيوم، حتى يختمر، وهنا تبدأ مرحلة جديدة من العمل.
"العمل ليلا"
تبدأ ورشة العمل ليلا حيث تقوم بعض النساء بتقطيع العجين قطعا صغيرة بينما تقوم أخريات ببرمه ولفه وتزيينه بعصا من حطب القطن ليصنعن منه قطعا من الكحك الدائري، التي يتم رصها في صواني مصنوعة من علب الصفيح، ليحملها الصغار إلى الفرن، لتبدأ مرحلة تسوية الكحك.
تلك المرحلة كانت تبدأ بـ"قدح" الأفران البلدية (إيقادها بالحطب الجاف من الذرة الشامية ومن أعواد محصول القطن الجاف)، وذلك لتسوية المخبوزات من العيش الفلاحي والكحك والفطائر والقرص المصنوعة بالسمن البلدي والسمسم والعجوة.
ولم يكن ينطفئ الفرن الفلاحي أو البلدي حتى يتم صناعة صينية من البسبوسة من دقيق الذرة الخشن مع السمن البلدي والعسل الأسود، وذلك إلى جانب صينية من "الأرز المعمر" بالسمن البلدي والسكر واللبن المتبقي من عجين الحكك، مع وضع محلبة الفول المدمس في الفرن وهي (آنية من الفخار للتسوية).
المشهد في الريف المصري كان رائعا، الروائح الطيبة تطل من كل بيت، والعمل يشارك فيه الجميع، والرجال ينتظرون نتيجة ما دفعوه من نقود لشراء متطلبات الكحك، الذي كانوا يعتبرونه وجبتهم البومية في الإفطار، ويقومون بتسخينه يوميا على نار "الشالية" الموقودة من "قوالح" الذرة.
"زيارة المقابر"
وهكذا تكون استعدادات "طلعة رجب" قد اكتملت بتسوية الكحك ثم شراء الفاكهة وخاصة البلح الجاف والبرتقال وحملهم جميعا في سبت من الخوص مصنوع يدويا، ولتقوم أكبر نساء العائلة بحمله والذهاب لمقابر القرية بعد صلاة الفجر.
قارئو القرآن من أهل القرية وبعض فقرائها كانت "طلعة رجب" بالنسبة لهم موسما للحصول على المال والطعام والفاكهة، حيث يتجمع "الفقهة" -كما كانوا يسمونهم- عند المقابر والجبانات بكل قرية ونجع لقراءة القرآن على المتوفى مقابل بعض ما جلبته النساء في أوعيتهن.
اظهار أخبار متعلقة
مع عودة ست الدار أو كبيرة نساء الأسرة إلى البيت تبدأ مرحلة أخرى من الاحتفال بشهر رجب، حيث يجري توزيع الكحك الذي جرى إعداده طوال الليل على أفراد العائلة بالتساوي، حيث يحصل كل زوج وزوجته وعياله على جزء خاص بهم، ثم يتجمعون ليلا للعشاء باللحم الجملي ويطعمون صواني البسبوسة أو الأرز المعمر، قبل أن يفطروا بالفول المدمس في الفرن.
ولكن مع العقود الأخيرة، وتطور الريف المصري، ووفاة الكثيرات من كبار السن، وعجز بنات الجيل الحالي عن أداء تلك المهمات، اختفت الكثير من تلك العادات بشكل كبير من الشارع المصري.
"احتفال غائب"
أما احتفال المصريين بـ"موسم رجب"، فكان يتمثل في شراء اللحوم لتجتمع العائلة في هذا اليوم على لحم الجازور أو اللحم الجملي أو على ذكر البط، أو "دكر بط" كما كانوا ينطقونه، أو "أوزة" كانت تقوم ست الدار بـ"تلغيغها"، ما يعني إطعامها الفول والذرة عنوة بشكل يومي حتى تسمن لذبحها أول نهار في رجب.
"موسم رجب"، بالنسية للفتيات التي أسعدهن الحظ بخطوبة أو كتب كتاب، كان ومازال يعني بأن يأتي الخطيب أو الزوج إلى بيتها مع ليل أول يوم في رجب حاملا معه من الهدايا والأقمشة أو ما يماثلها أو يمنحها مبلغا من المال، وذلك كما اعتاد الأهالي في المواسم الإسلامية في رجب ونصف شعبان ورمضان والعيدين وعاشوراء ومولد النبي وغيرها.
اظهار أخبار متعلقة
"لهذا تغير الحال"
وعن أسباب اختفاء بعض عادات موسم وشهر رجب، تقول الحاجة حياة (70 عاما) والحاجة فايقة(60 عاما)، والحاجة بطة (65 عاما)، إن "كبر سن الكثيرات ممن كن يقمن بأعمال صناعة الحكك أقعدهن المرض والسن".
وأشرن في حديثهن إلى "عربي21 لايت"، إلى أن "هدم الأفران البلدية التي كانت مصنوعة من الطين وبها (عرصة) من الفخار لخبيز العيش الفلاحي وصناعة الكحك والفطير وصواني البسبوسة والأرز المعمر والفول المدمس، أهم أسباب اندثار مظاهر الاحتفال بموسم رجب".
ولكنهن أوضحن أن "وجود أفران الغاز بكل بيت دفع النساء لعمل الحكك والفطير في أي وقت من العام، وعدم الارتباط بقدوم شهر رجب أو انتهاء شهر رمضان لعمل الكحك، أو أكل اللحوم".
وبالحديث مع مجدي، صاحب فرن خاص بصناعة المخبوزات، أكد أنه "مع انتشار الأفران الخاصة تخلت النساء كثيرا عن عاداتها السابقة بصناعة الكحك في رجب ورمضان، ولجأن إلى تلك الأفران لشرائها أو صناعتها لهن".
ولفت في حديثه لـ"عربي21 لايت"، إلى أن "بعض النساء بدأن في استعادة عاداتها كل عام بالذهاب إلى المقابر مع طلعة رجب، ويشترين القرص والشريك منه"، مؤكدا أن "عادة صناعتها بأنفسهن اختفت بشكل كبير".