يطرق عمي "أنعر" أو "الريس عبدالوهاب"، طرقا سريعا على طبلته بعصاه الخيزران التي لا تبلى قائلا: "اصحي يا نايم وحد الدايم رمضان كريم"، ليوقظ نساء أهل قريته لإعداد وجبة السحور، والذين بدورهم يوقظون الرجال ليتسحروا قبل انطلاق أذان الفجر.
اظهار أخبار متعلقة
ولكن أنعر، وفي ظل المطر الشديد الذي يجعل من أرض الدلتا الترابية حفرا من الطين يطرق الشوارع بطيئا متوخيا الحذر حتى لا تنزلق قدماه القصيرتان ويسقط أرضا وسط الأطفال الذي يزفونه منذ انطلاقه وحتى عودته لبيته.
وكان يوم العيد يمثل للريس عبدالوهاب، فرحة كبيرة حيث حان وقت جني ثمرة جهده وعمله طوال ليل شهر رمضان، حيث يطوف القرية ليحصل على أجمل هدايا من الكعك والبسكويت بالسمن البلدي والسمسم، ولا يخلو الأمر من بعض الجنيهات.
"حنين للماضي"
ورغم انتهاء زمن الريس عبدالوهاب، وحضور الكهرباء في كل بقاع ريف مصر، وقلة مطره في الشتاء مع تمسك المصريين بالحديث النبوي الشريف: "تسحروا فإن في السحور بركة"؛ إلا أن طبلة السحور تظل علامة تاريخية تزين حياة المصريين خلال شهر رمضان وتربطهم بالماضي.
ومع فقدانها الكثير من دورها وأهميتها بفعل التقدم التكنولوجي وعدم حاجة المصريين لمن يوقظهم لتناول وجبة السحور والتي تؤديها الهواتف المحمولة؛ إلا أن كثيرين ينظرون إليها من شقين.
اظهار أخبار متعلقة
الشق الأول: أنها تمثل للملايين من الشباب وكبار السن منهم نوعا من الحنين إلى الماضي، كون أغلبهم ارتبط بها منذ الصغر، وكانت تمثل له ولآبائه وأجداده الوسيلة الوحيدة للاستيقاظ للسحور خلال شهر رمضان.
الشق الثاني: وهو إنساني بحت، حيث ينظر البعض إلى المسحراتي كونه رجل فقير، وتمثل له طبلة السحور في رمضان مصدر رزقه الوحيد والأهم طوال العام.
حيث أنه وبعد انتهاء الشهر الكريم يطوف الطبال أو المسحراتي على بيوت أهل القرية أو المدينة التي يعمل بها ليحصل على أجرة تقديرية من كل عائلة ما بين 20 وحتى 100 جنيها، أو بعض اللحوم أو الكحك والبسكويت.
"هذا ما تبقى"
الطبال محمد أنعر، ورث مهنة المسحراتي عن أبيه وعن جده، حيث أن الطبلة المصنوعة من جلد الغزلان أو الماعز قطعة مما ورثه محمد وإخوته عن أبيهم.
يقول لـ"عربي21 لايت": "بالفعل لم تعد مهنة المسحراتي ذات أهمية كبيرة للناس، حيث أن الهواتف المحمولة توقظهم دون الحاجة إلى مسحراتي، على غير عادة المصريين قبل نحو 20 عاما عندما كانوا ينامون ولا يوقظهم للسحور إلا المسحراتي".
ويوضح أنه "يبدأ عمله من منتصف اليل حتى قبيل أذان الفجر، ويكتفي بالطرق على الطبلة وإحداث بعض الأنغام يفرح بها الأطفال، وذلك على غير ما كان يفعله والده سابقا بأن ينادي على كل صاحب بيت باسمه مع الطرق على الطبلة".
ويؤكد أن "ما تبقى من مهنة الطبال قليل، والمستمر منه حتى اليوم هو المسحراتي، إلى جانب المناداة على الميت، وذلك بطواف القرية والطرق على الطبلة وإعلان اسم من توفى اليوم ومكان وموعد الصلاة عليه ودفنه".
ويلفت إلى أن هناك من يستدعينا للطبل إلى جانب المزمار البلدي لإحياء بعض حفلات الخطوبة والزواج، ولكنها قلت بنسبة كبيرة لاعتماد الناس على حفلات (الدي جي)".
اظهار أخبار متعلقة
وحول أجرته من الأهالي بعد انتهاء رمضان، يشير إلى أنها "تقديرية من كل أسرة أو عائلة، ولا تمثل لنا قيمة كبيرة لأن القرية الواحدة بها أكثر من 3 و4 طبالين الكل له منطقة يعمل بها محددة لا يتخطاها".
"ابتكار وتجديد"
ولأن المسحراتي أصبح اليوم لا يجذب سوى فئة الأطفال، قام بعض المسحراتية بالتجديد وتقديم فقرات لجذب الأهالي إما بالغناء مثل الحاجة سيدة، التي تتغنى بحب نبي الإسلام كمسحراتي دون أن تحمل طبلة السحور.
وقدم المسحراتى إسماعيل نصحي، في قرية ميت فارس التابعة لمركز بني عبيد بمحافظة الدقهلية (وسط الدلتا)، شكلا آخر من أشكال الجذب وإعادة إحياء مهنة المسحراتي، حيث وضع بعض اللمبات والإضاءة حول جسده وحول الطبلة.
"بين المدينة والقاهرة"
وبدأت ظاهرة المسحراتي في التاريخ الإسلامي منذ العهد العباسي وتطورت إلى أن أصبحت مهنة وتقليدا أصيلا تتوارثه الأجيال في شهر رمضان، بحسب البوابة الإلكترونية لمحافظة القاهرة.
وكان المسلمون يعرفون وقت السحور في عهد نبي الإسلام في المدينة المنورة بأذان الصحابي "بلال بن رباح" ويعرفون الامتناع عن الطعام بأذان الصحابي "عبدالله بن أم مكتوم".
وفي مكة كان "الزمزمي" ينادي من أجل السحور، وكان يتبع طريقة خاصة بحيث يرخي طرف حبل في يده يتدلى منه قنديلان كبيران حتى يرى نور القنديلين من لا يستطيع سماع ندائه من فوق المسجد.
اظهار أخبار متعلقة
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية تعددت أساليب تنبيه الصائمين، حيث ابتكر المسلمون وسائل جديدة في الولايات الإسلامية، ومن هنا بدأت مهنة المسحراتي في عصر الدولة العباسية، وفي عهد الخليفة المنتصر بالله.
ويذكر المؤرخون أن والي مصر "عتبة بن إسحاق" تطوع عام 238هـ، لمهمة إيقاظ الناس للسحور، وكان يطوف لشوارع من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط قائلا: "عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة".
وفي عصر الدولة الفاطمية أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي جنوده بالطرق على الأبواب لإيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الوقت تم تخصيص رجل للقيام بمهمة المسحراتي.