في يوم من أيام الربيع، قرّرت القيام برحلة من القاهرة إلى مدينة طهطا بمحافظة سوهاج، بغرض استكشاف منزل أحد أبرز رموز مصر الحديثة، وهو عالم التنوير رفاعة الطهطاوي.
كانت الرحلة عبر القطار وسيلة مثالية لقطع مسافة أكثر من 500 كم، واستغرقت حوالي 7 ساعات، ما أتاح لي الفرصة للاستمتاع بمناظر الريف المصري الخلابة، والتفكر في إرث هذا الرجل العظيم.
لم يكن يكتب النجاح للرحلة لولا الاتفاق مع ورثة المنزل، عمر ومحمود رفاعة الطهطاوي، لأخذ الإذن بفتح المنزل من قبل المسؤول عن البيت بتفويض من الأسرة.
رائد التنوير في الشرق الأوسط
الطهطاوي هو أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقّب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مُشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها والي مصر محمد علي باشا إلى فرنسا، بعد أن رشّحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكّاه عند السلطان.
هو رفاعة بك بن بدوي بن علي بن محمد بن علي بن رافع، ويُلحقون نسبهم بمحمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحُسين بن فاطمة الزهراء، ولد عام 1801 بمدينة طهطا بصعيد مصر. حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف.
عكف الطهطاوي على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. عاد إلى مصر عام 1831، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الكبير في أهم كتبه، "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" و "تخليص الإبريز في تخليص باريز"، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر.
اظهار أخبار متعلقة
تم تخليد اسم رفاعة الطهطاوي في العديد من المدن المصرية، وأطلق اسمه على العديد من المدارس والميادين والشوارع بمحافظة سوهاج. ويوجد 4 تماثيل للطهطاوي منها 3 تماثيل بطهطا أقدمها التمثال الموجود بميدان محطة طهطا.
مشاهدات في منزل الطهطاوي
عند الوصول إلى منزل رفاعة الطهطاوي، ينتابك رهبة واحترام عميقين. المنزل كان قديمًا، يروي حكايات من الماضي. استقبلني أحد الأشخاص الذي يقوم برعاية المنزل، وكان ودودًا للغاية، وقدم لي جولة تعريفية شاملة.
المنزل مكون من طابقين وله 3 نواص، وفي الخلف حديقة كبيرة يتوسطها مظلة خشبية، الطابق الأول عبارة عن غرف كبيرة لاستقبال الضيوف وردهة كبيرة، وأمام الباب الكبير الذي يطل على شارع بورسعيد يوجد أسدان صنعا في إيطاليا، وهما هدية من ملك إيطاليا إلى علي فهمي رفاعة باشا الذي كان يتمتع بعلاقة قوية مع إيطاليا.
تجولت في الغرف المختلفة، حيث كانت الجدران مزينة بصور تذكارية قديمة لرفاعة الطهطاوي، تعكس حياته وإنجازاته، من بينها صورة من الجلد الطبيعي جاء بها من فرنسا وهي الصورة الشهيرة له. كان هناك عدة تماثيل تكرم هذا الرجل العظيم، الذي ساهم بشكل كبير في نهضة مصر الحديثة من خلال جهوده في التعليم والتنوير.
أخذنا الحارس إلى غرفة مخصّصة لعرض الصور التذكارية. كانت هناك صور قديمة نادرة لرفاعة في مراحل مختلفة من حياته، بدءًا من شبابه وحتى أواخر أيامه. كان من الرائع رؤية هذه الصور التي تعبر عن حياة مليئة بالتحديات والإنجازات. الحارس كان متمكنًا من معرفة كل تفاصيل هذه الصور وقصصها، ما أضاف قيمة كبيرة لزيارتي.
توجد بعض مقتنيات الشيخ رفاعة الطهطاوي مثل قسيمة زواجه وبعض الوثائق والمستندات التاريخية، وهناك سيف وخنجر الشيخ وبعض المخطوطات النادرة، وتوجد خزينة كبيرة يعود تاريخها إلى عام 1855، وساعة حائط معدنية يعود تاريخها إلى أكثر من 150 عاما وكونسول قديم وصور لأبناء الشيخ رفاعة إلى جانب مكتبة قديمة، لكن غالبيتها تم نقلها إلى مكتبة خاصة بالمحافظة.
اظهار أخبار متعلقة
يقول حفيد الشيخ رفاعة رجال الأعمال عمر الطهطاوي إن "ما قدمه الطهطاوي لمصر والعالم العربي جعل منه أحد رجال التنوير في عصره، ويحظى بتقدير في الشرق والغرب باعتباره أبرز رجال النهضة العلمية في عصره".
وأضاف في تصريحات خاصة لـ"عربي لايت"، أن "من الأمور التي لا يعلمها الكثيرون، إلى جانب تأسيسه لمدرسة الألسن واهتمامه بالترجمة، أنّه قام بإنشاء الكلية الحربية وكلية الطب وكلية الهندسة. لقد كان موسوعة في علمه وطموحه".
وبخصوص تراث الشيخ رفاعة، أوضح أن "ما قدمه الطهطاوي ليس مجرد مؤلفات وكتب مترجمة، بل إنشاء وإدارة العديد من المدارس العصرية، وطرق أبواب العلوم الحديثة، وغير من المفهوم التقليدي للعلوم السائدة في عصره، وله مكتبة معروفة باسمه في مدينة سوهاج تبرع بها جدي تضم الكثير من المؤلفات والكتب والمخطوطات النادرة وتحظى باهتمام كبير".
اظهار أخبار متعلقة
في عام 2018، انتهت محافظة سوهاج من تطوير المنطقة المحيطة بمنزل الطهطاوي في شارع بورسعيد، حيث تم إزالة جميع الإشغالات بها لتظهر بالشكل الحضاري اللائق كأحد أهم المزارات التراثية والثقافية في بالمدينة، حيث تتردد بعثات أمريكية وفرنسية على المنزل وتفقده.
وتوفّي رفاعة الطهطاوي سنة 1873 عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعا نهضويّا رائدا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.