إبداع الخطاطين يغيب عن لوحات الانتخابات بمصر لصالح التكنولوجيا (شاهد)

GettyImages-106695330
جيتي
  • القاهرة- عربي21 لايت
  • الجمعة، 25-07-2025
  • 08:24 ص
فوق مصطبة طينية ارتفاعها 50 سم تتوسط بيت ريفي حوائطه من الطوب اللبن وملاطه من طمي الدلتا المعجون بمياه نهر النيل، يجلس الشيخ أحمد مكاوي، صاحب الجثة الضخمة والوجه الأحمر يرتدي قفطانه الأبيض، وفي يده قلم من الغاب أو البوص نهايته مدببة يغطه في دواة عميقة من الحبر، وحوله عشرات التلاميذ من مدرستي قريته الابتدائية والإعدادية، كل منهم يحمل لوحة ورقية ويتسابقون على من يتفضل الشيخ عليه أولا بكتابة لوحته ورسمها بأجمل فنون الكتابة والخط العربي.

الشيخ، الذي كان يقدم أعماله الفنية عبر اللوحات الورقية المقواة بخطي الرقعة والنسخ كهدايا مجانية يدخل بها السرور على قلب التلاميذ والطلاب، بدأ رحلته الأولى مع عالم احتراف الكتابة على لافتات القماش بأجر، مع أول وثاني تجربة انتخابية لمصر في عهد الرئيس الراحل أنور السادات عامي 1976، و1979.

اظهار أخبار متعلقة



بعدما ذاع صيته، كرر الشيخ التجربة في انتخابات مجلس الشعب 1984، والتي شهدت أول تنافس حقيقي من حزب "الوفد" الجديد، المتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين، بمواجهة الحزب "الوطني الديمقراطي"، ليرسم الرجل إلى جانب أسماء المرشحين صورتي "الجمل" و"الهلال" رمزا العمال والفئات عن الحزب الحكومي.

"مبدع بكل قرية"

في كل قرية وحي شعبي كان هناك خطاط يبدع في كتابة لافتات مرشحي الانتخابات الرئاسية (14 استحقاق بين استفتاء وانتخابات منذ 1956 وحتى 2023)، وانتخابات مجلسي الشعب والشورى (10 استحقاقات منذ عام 1980 وحتى 2020)، والذي كان يتسابق إليه المرشحون ومؤيدوهم لكتابة أسمائهم ورموزهم الانتخابية بخطوط الرقعة والنسخ شهيرة الاستخدام في مصر.

لافتات القماش الدمور أو البفت كانت هي الغالبة على دعاية المرشحين، ما جعل أيام الانتخابات موسما هاما لبائعي القماش ومصدر رزق للخطاطين والمبدعين في كتابة الخط العربي، الذين ورث أغلبهم المهنة عن أسرهم، ومنهم من تلقى تعليمه لفنون الخط العربي عبر مدارس متخصصة.




التنافس بين المرشحين على المقاعد الانتخابية كان يمتد ليشمل جودة وفخامة خطوط لافتاتهم، مما يدفعهم للاستعانة بأمهر الخطاطين؛ ما كانت تعد فرصة لإثراء الخط العربي وفنون الكتابة وأنواعها.

لكن مهنة الخطاط تراجعت كما تراجعت الكثير من المهن التاريخية مع التطور التكنولوجي، حيث تحولت الدعاية عن اللافتات القماش إلى الطباعة عبر لافتات بلاستيك ليضيع سوق الخطاطين وتغيب فنون الخط العربي عن لافتات الدعاية، التي لم يعوض غيابها حتى التصميم الذي يجري الآن عبر الذكاء الاصطناعي.

بينما تُقبل مصر على انتخابات مجلس الشيوخ الشهر المقبل، واستحقاق ثاني لمجلس النواب في خريف هذا العام، تعج الشوارع بلافتات لا تحمل أي نوع من جماليات وفنون الخط العربي، وفق متابعين.

"من الازدهار  إلى الأفول"

الأستاذ عبدالحميد، أحد الذين امتهنوا مهنة الخطاط، وافتتح لنفسه مكتبة في قريته، طورها إلى مكتبة أكبر في مركز المدنية، كانت "تتحول إلى خلية نحل في كل استحقاق انتخابي تشهده مصر"، وفق قوله لـ"عربي لايت".

ويضيف: "مع ظهور الانتخابات النقابية وطفرة محلات البقالة وغيرها زاد الرزق والعمل، وتم تطويره بشكل كبير باستخدام الكمبيوتر للحصول على تصميمات نقوم بتنفيذها في مطابع خاصة بالطباعة على القماش".




ويوضح أنه "لم يرث أحد مني المهنة لأنها تقلصت بشكل كبير، فلم يعد منذ 10 سنوات وأكثر يذهب أحد المرشحين إلى خطاط، ولكنه يتعامل مباشرة مع المطابع، وشركات الدعاية التي تتولى المهمة كاملة".

ويلفت إلى أن أدواته كانت عبارة عن "أقلام وألوان ومكتب لرسم اللوحات وكتابة اللافتات، بينما كانت أدوات من قبلنا عبارة عن أقلام من البوص ودواة من الحبر الشيني الأحمر والأزرق، واليوم لا يمكنني التعامل مع التكنولوجيا الحديثة".

"إرث قيم وتراث ثقافي وفني"

ياسر شوقي، المتخصص في مجال الطباعة والإعلان لأكثر من 40 عاما، يقول لـ"عربي لايت": "بعد ثورة 1919، كانت الدعاية بكل أنواعها ومنها لاحقا الانتخابية تُرسم وتُكتب على الحوائط وعبر الورق المطبوع بطباعة بدائة، ثم ظهرت لاحقا اللافتات القماش في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وكان يجري ربطها على قطع من الخشب ويُمسك بها شخصان".

ويوضح أن "اللوحات القماش كانت تتميز بجودة الخط، ولم تكن تعرف الرداءة طريقها لأي شيء، حيث تميزت تلك الفترات بالتخصص بمعنى أن المعلم معلم، والخطاط خطاط، وبالتالي كل منهم كان يبدع في مجاله، ما يجعل من اللوحات القديمة إرث له قيمة وتراث ثقافي وفني يمكن الاستعانة بها لتدريس جماليات وفنون الخط العربي".




ويلفت إلى "مشهورين كثيرين من الخطاطين المصريين، من خريجي مدرسة أغاخان بحي شبرا بالقاهرة، والتي مازالت قائمة حتى اليوم، ومنهم الخطاط: محمد عبدالقادر، وسيد إبراهيم، وحسني البابا، وخضير البورسعيدي، ومنهم من كتبوا لافتات للتليفزيون المصري وأفلام السينما ومسلسلات الدراما، والتي تحمل إلى اليوم توقيعهم".

ويشير إلى أنه "مع دخول العشوائية تم التوسع أكثر بكتابة الدعاية الانتخابية على الحوائط، والتي تراجعت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى المركز الثاني بعد لافتات القماش، لتعود مجددا في السبعينيات والثمانينيات بقوة ما يشوه المنظر الجمالي والحضاري ويزيد من العشوائية".

ويبين أن "لافتات القماش والكتابة على الحوائط ظلت هي الأساس في التسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الجديدة، لكنه منذ نحو 15 عاما زادت لافتات القماش أكثر بكثير من الكتابة على الحوائط، وظلت لغة القماش السائدة، لكنه منذ عام 2010 سادت لافتات ودعاية البانر وانتهى عصر القماش، لينتهي معه زمن الخطاطين".




ويؤكد أنه "مع ثورة الإنترنت أصبح يجري تصميم الدعاية الانتخابية وغيرها على الكمبيوتر ومن ثم طباعتها على البانر؛ ولكنه ومنذ نحو عامين تم اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي وطلب تصميمات وصور منه، وفي الغالب يقدم تصميمات رائعة، ولكنها خالية من فنون الخط العربي وإبداع يد الخطاط".

وحول سعر تكلفة البانر الانتخابي، وسعر لافتات القماش، يبين أن "سعر كل منها متقارب كثيرا، فتكلفة البانر عرض متر في طول 5 أمتار يبلغ بين 700 إلى 1000 جنيه، وبينما كانت لافتة القماش بنحو 50 جنيها في تسعينيات القرن الماضي".

"تاريخ مشهود حتى اليوم"

وللخط العربي في مصر تاريخ عريق، وخطاطين مبدعين أثروا هذا الفن، الذي بدأ بالخط الكوفي لرسم المصحف وتدوين الحديث وكتابة رسائل الحكام.

انتقل الإبداع الفني في الخط العربي إلى عمارة المساجد وتزيين القصور بالعصر  الفاطمي (القرن 10 - 12 الميلادي)، ليعيد العصر الأيوبي والمملوكي (القرن 12 - 16 الميلادي) ازدهار فن الخط العربي بعد تدمير المغول لبغداد ومكتبتها، حيث جرى استخدام الخط الكوفي والثلث لتدوين السجلات وتزيين المساجد كالجامع الأزهر، ومسجد السلطان حسن، وغيرهما.

مع انتقال مصر إلى ولاية الدولة العثمانية عام 1517، أبدع الخطاطون المصريون في عمارة مساجد وقصور اسطنبول، باستخدام خطوط الثلث والنسخ والديواني، لتشهد القاهرة عام 1922، تأسيس مدرسة "تحسين الخطوط الملكية"، التي قدمت مبدعين في فنون الكتابة والخط العربي.




من أشهر خطاطي مصر: ابن الصائغ (توفي عام 845 هجرية)، ومحمد مؤنس زادة وابنه محمد مؤنس بـ(القرن 13 الهجري) مؤسسان أول مدرسة للخط العربي بمصر، ليظهر اسم يوسف أحمد بـ(القرن 20) الذي زين قاعتي العرش بقصري عابدين والمنتزه.

ومصطفى غزلان الذي تولى كتابة كسوة الكعبة عام 1937، والشقيقان محمد إبراهيم، وكامل إبراهيم، وتلميذهما محمد عبدالقادر، وشيخ الخطاطين محمود إبراهيم كاتب المصحف بخط الثلث، وخضير البورسعيدي الذي كتب مقدمات الكثير من المسلسلات والمسرحيات.
شارك
التعليقات