مدينةٌ عريقة، وتاريخٌ غنيّ، وموقعٌ إستراتيجي، وأحد الثغور التي ظلت هدفًا للغزاة والمحتلين على مدى الزمان، كلّ هذه الصفات تُميّز مدينة السويس الساحلية، أحد أشهر مدن مصر، وبوابة عبورها إلى البحر الأحمر.
ولكنّ ما يميز السويس عن غيرها من المدن المصرية، هو ارتباطها الوثيق بمهنة الصيد، التي تُعدّ عصب الحياة لسكانها، وتُشكّل جزءا لا يتجزأ من هويتهم وثقافتهم.
تطل مدينة السويس المصرية على ساحل البحر الأحمر، وتُعد موطنًا لمجتمع صيادي عريق يعتمد على مهنة صيد الأسماك كمصدر رزق أساسي. يزخر البحر الأحمر بتنوع هائل من الأحياء البحرية، مما يجعله وجهة مثالية لممارسة مهنة الصيد.
مراسل "عربي21 لايت" زار مدينة السويس الواقعة على رأس خليج السويس؛ وهي أكبر المدن المصرية المطلة على البحر الأحمر، وميناء الأتكة للصيد البحري وميناء الأزء الصغير، وسوق الأنصاري للأسماك بحي الأربعين بالمدينة.
يقول أحد الصيادين الصغار ويدعى "مرجان" من على متن أحد المراكب: "هذا بيتنا الصغير، هنا ننام ونعمل ونجلس ونأكل ونعيش على سطح متحرك لا يتوقف أبدا، حتى يبدو الوقوف على الأرض أمرا صعبا للبعض أحيانا، وهي مغامرة بكل ما في الكلمة من معنى نمضي وقتنا بين أمرين الأمل واليأس الفرح والعبوس".
وعن أشهر أنواع السمك بالبحر الأحمر، يضيف لـ"عربي21 لايت": "سمك جمبري أزاز سويسي، والمعكرونة السويسي، وسمك خنزيرة بلاط كبيرة، وسمك لوت، وقار، هامور، شعور، دراك، قاروص، دينيس، سهلية وسوبيا وسمك جحا وسمك بلاميطة، والحريد، والكابوريا والشخرم ومرجان أبو أتب، والبربونى والكاليماري.. إلخ، وهي تصلح للقلي والشوي والشوربة".
الصيد ليس مجرد مهنة
ومهنة الصيد ليست مجرد وسيلة لكسب العيش، بل هي جزء من التراث والثقافة المحلية. يتميز الصيد في السويس باستخدام مراكب الصيد الصغيرة التي تبحر من مينائي الأتكة والأزء الصغير وتعود بعد رحلة طويلة وشاقة محملة بأنواع مختلفة من الأسماك.
تواجه مهنة الصيد في السويس بعض التحديات، أهمها أنها تخضع لمواسم محددة، تفرضها الدولة للحفاظ على الثروة السمكية ومنع الإفراط في استغلالها. وتشمل هذه المواسم فترات حظر صيد تامّة خلال فترات تكاثر الأسماك، بينما تُسمح ممارسة الصيد في باقي المواسم مع مراعاة قواعد ولوائح محددة.
حياة البحر.. مع خيوط الفجر
يعتمد الصيادون في السويس على أساليب تقليدية لصيد الأسماك، باستخدام الشباك والمراكب الصغيرة. وتنتشر على طول ساحل السويس العديد من الموانئ الصغيرة التي تُستخدم لإنزال الصيد، ويبدأ جني ثمار هذه الرحلة مع خيوط الفجر الأولى.
ويتسابق التجار والباعة الصغار وعاشقو الأسماك للوصول إلى ميناء الأزء الصغير مبكرا الواقع بجوار شركات تكرير البترول الضخمة قبل شروق الشمس٬ حيث تتوافد المراكب الصغيرة إلى جوار الأرصفة تعج بمئات الصيادين لتفريغ ما جاد به البحر.
ويتم جلب صناديق أنواع الأسماك المختلفة التي يزخر بها البحر الأحمر إلى فضاء قبالة الميناء ويتحلق حولها التجار والمواطنون. ويقول الصياد محمد المراكبي في العقد الرابع من عمره: "يتم جمع صناديق الأسماك وعرضها في مزادات صغيرة ومن يعرض أعلى سعر يحصل على مراده".
وأوضح لـ"عربي21 لايت": "هناك نظام البيع بالشروة وهي عبارة عن مجموعة من أنواع السمك المختلفة سواء في النوع أو الحجم ويتم تقديرها بناء على الكميات والأنواع والأحجام، ولا يملك الصيادون الاعتراض على أسعار المزاد، وتختلف الأسعار من يوم لآخر بحسب كميات السمك المطروحة".
في ميناء الأتكة للصيد البحري، المراكب هناك أكبر حجما وكميات السمك كبيرة لأنها تعتمد على وسائل صيد حديثة، حيث يحرص الصيادون على اختيار أفضل مواقع الصيد للحصول على كميات وفيرة من الأسماك المتنوعة.
عند عودتهم إلى الميناء كما هو حال ميناء الأزء يتم تفريغ حمولة المراكب من الأسماك من المراكب مباشرة إلى سيارات مبردة (برادات) متوسطة الحجم حيث يقام المزاد في دقائق لكل مركب على حدة وتنقل الأسماك إلى محافظات مصر المختلفة ويتم حفظها بكميات كبيرة من الثلج.
مشاهد إنسانية
من بعض المشاهد التي تشير إلى التضامن، يحضر بعض الفقراء من الرجال والسيدات إلى الموانئ ويحصلون من كل مركب على بضع سمكات يقومون بجمعها في وعاء٬ ومع انتهاء المزادات يقومون بعرض ما حصلوا عليه للبيع للزائرين للحصول على بعض النقود.
يحرص بعض الهواة على الحصول على الأسماك من سوق الأزء الصغير نسبيا وتقاسم الكميات مع رفاقهم، يقول المهندس مدحت الغمري، "نحن من القاهرة ونخرج قبل الفجر بساعتين لقطع (150 كم) والوصول قبل شروق الشمس والحصول على أسماك طازجة".
وأضاف لـ"عربي21 لايت": "نتقاسم الأسماك التي نشتريها في المزاد ونجلب معنا صناديق مغلقة من الفِل الأبيض و نغطي السمك بالثلج، ثم نتوجه إلى السوق واختيار بعض أنواع السمك من أجل تناوله في أحد المطاعم المتخصصة في إعداد الأسماك٬ وخلال تجهيز وتناول الطعام نقوم بتنظيف الأسماك في السوق ثم نعود أدراجنا".
رحلة السمك من البحر إلى السوق
الأمر يبدو مختلفا للتجار الذين يتجهون مع ساعات الصباح الأولى إلى سوق الأنصاري، وهو السوق الرئيسي لبيع الأسماك في حي الأربعين بالسويس، حيث توجد مئات المحلات الصغيرة لبيع وتنظيف الأسماك فقط.
من خلف طاولة من الصاج لعرض الأسماك المغطاة بالثلج يقف الباعة لعرض بضاعتهم الجديدة التي وصلت لتوها، من بين هؤلاء الريس إبراهيم الأبيض الذي انتهى لتوه من عرض أنواع الأسماك المختلفة.
وبسؤاله عن طبيعة يومه في السوق، قال لـ"عربي21 لايت": "يبدأ يومنا مبكرا بعد شروق الشمس ننتظر سيارات السمك ونقوم بتنزيل الحملة ومن ثم فرزها ووضع بعضها في مبردات خاصة والبعض الآخر على الطاولة كما ترى ليختار منها الزبون ما يريد، ويكون يومنا صاخبا منذ الصباح حتى المساء ثم ينتهي يومنا بعد العشاء".
وبشأن تأثير مهنة الصيد على حياتهم، يؤكد الأبيض أن "مهنة الصيد العريقة في المدينة والتي تتوارثها الأجيال صبغت سكان مدينة السويس العريقة بطباع خاصة، يتميز السكان بالشجاعة والصبر والقدرة على التكيف مع ظروف البحر المتغيرة كما أن العمل الجماعي والتعاون بين الصيادين يعتبر من السمات البارزة التي تميز المجتمع السويسي".
أهمية مهنة الصيد
تُعد مهنة الصيد في السويس تراثًا ثقافيًا واقتصاديًا هامًا ومن أهم المهن التي تساهم في توفير الأمن الغذائي للمدينة، حيث تُقدم مصدرًا غنيًا بالبروتين والسعرات الحرارية للسكان المحليين.
كما تُساهم هذه المهنة في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي من خلال توفير فرص عمل للعديد من الأشخاص، بالإضافة إلى دعم قطاع السياحة من خلال جذب الزوار لشراء الأسماك الطازجة.