"كوز العسل يا تين"، كان هذا هو نداء بائعة التين المصرية التي كانت تدور بشوراع القاهرة الشعبية وفي أزقة وحواري مدن بر المحروسة، حاملة على رأسها "طشتا" من النحاس ثقيل الوزن أو آخر من الألومنيوم أخف وزنا أو صفيحة من الصاج، وفي يدها سكين نصله حاد، لبيع التين الشوكي "فاكهة الغلابة"، في حر الصيف.
نداوة صوتها، ونداؤها على التين وكأنه موال شعبي يطرب له السامعون وتهفو له قلوب الكبار والأطفال الذين ينتظرون بضاعتها "الحلوة" كل يوم جمعة من كل أسبوع، فيجرون نحو الآباء والأمهات والأجداد والجدات للحصول على تعريفة "5 مليمات" أو قرش صاغ "10 مليم" لشراء كوزين أو أكثر من فاكهة التين الشوكي.
وكانت السيدة تقوم بمهمتها بمهارة تامة، فبعد نزع ثمرة التين الشوكي أو كوز التين كما يسميه المصريون من طشتها المملوء بمياه باردة يسقط فيها شوك الثمار حتى لا يصيب يديها تمسك بالثمرة من مكان محدد وتشق غشاءها السميك نصفين.
اظهار أخبار متعلقة
وهنا تبرز الثمرة فيقبض عليها المشتري بيده دون أن تلمسها يد السيدة، التي تُنهي مهمتها قائلة: "بالهناء والشفاء يسري على بدنك".
وكانت هؤلاء النساء يستأجرن عربات "الكارو" من أحياء القاهرة الشعبية وينطلقن بها فجرا نحو مزارع التين في مناطق الخانكة وأبو زعبل والجبل الأصفر الصحراوية شمال شرق القاهرة والشهيرة بزراعة التين الشوكي، ليعدن بـ"عدايات" وأقفاص مصنوعة من جريد النخيل بكل واحدة منها نحو 200 ثمرة، يفرغنها في طشوتهن لتبدأ رحلة البيع.
كانت تلك لمحة تاريخية قبل نحو 4 أو 5 عقود حول طرق بيع التين الشوكي الفاكهة الشهيرة والمحبوبة في مصر، والتي تعج بها شوارع البلاد في كل صيف، إلا أن وسائل بيع التين وتقديمه للزبائن اختلفت وتطورت كثيرا، ولكن البائع هو من الفقراء أو الشباب والنساء المكافحين لأجل لقمة العيش.
ويحل الصيف في مصر فيفتح معه بعض أنواع الرزق للشباب وبعض العاطلين وحتى طلاب المدارس والجامعات، ومن بين الأبواب بيع التين الشوكي الذي تشتهر به بعض أراضي الظهير الصحراوي بالبلاد جنوبا وشرقا وغربا وخاصة محافظات السويس والإسماعيلية والقليوبية والبحيرة والمنيا، والوادي الجديد.
والتين الشوكي نبات شائك ينتمي للفصيلة "الصبارية"، وينمو على ألواح نبات الصبار، وعادة ما يُزرع في الأراضي الرملية والمناطق الصحراوية حيث يحصل على كميات مياه قليلة تجعل طعمه أفضل من زراعته بالأراضي الطينية.
اظهار أخبار متعلقة
ورغم ما في التين من آلام مع الشوك لمن يتعامل معه إلا أن مدة بيعه تقتصر على شهرين تقريبا، حيث يصل سعر الثمرة الواحدة أو "الكوز" إلى 4 جنيهات، وفق ما رصدته "عربي21 لايت".
لكن يتعدى سعر ثمرة التين تلك الأرقام في المناطق الراقية من القاهرة وفي كورنيش النيل حيث تتجمع الأسر والعشاق ومحبي السهر في ليل العاصمة، كما انتقلت حالة عشق التين الشوكي لتجمعات الأثرياء حيث يباع بمنطقة الساحل الشمالي بمبالغ مرتفعة.
رحلة نزع الأشواك
وفي أغلب مدن الدلتا وفي القاهرة تجد تجمعات لتجار يقومون بنقل التين الشوكي من أماكن زراعته إلى الموزعين أو التجار "السريحة"، ورصدت "عربي21 لايت"، بعضا من التجار في عدة مناطق بزهراء مدينة نصر قادمين من محافظة البحيرة (غربا)، وفي مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية قادمين من محافظة الإسماعيلية (شرقا).
أحد التجار القادمين ببضاعته من منطقة مزارع الإسماعيلية شرق القاهرة، أكد أنهم يحصلون على بعض المزارع بشراء ثمارها بالفدان، ويأتون لتوزيع بضائعهم في محافظة الشرقية وعاصمتها الزقازيق ومدنها للباعة السريحة.
وأوضح أنه يبيع القفص أو "العداية" للبائع بنحو 400 جنيه، وأن "العداية" تحوي نحو 200 ثمرة فيكون المكسب ما بين 100 و200 جنيها في العداية الواحدة، وهو المكسب الذي يتقاسمه التاجر الوسيط والبائع السريح.
وفي حرارة شمس تموز/ يوليو الذي ينضج فيه ثمر التين الأخضر والأصفر والممزوج بحمرة، ومع لفحة حر آب/ أغسطس، رصدت "عربي21 لايت"، شبابا ما بين عمر الـ15 والـ25 عاما، يسرحون في الشوارع بعربات خشبية على عجلتين مخصصة لبيع فاكهة التين الشوكي.
يقول ثلاثة من الباعة السريحة على عربات التين في منطقة الحي العاشر بمدينة نصر شرق القاهرة، إنهم يحصلون على أقفاص وعدايات التين من تجار يأتون من محافظة البحيرة، وأنهم يعملون فقط على عربات خشبية مملوكة لبعض الوسطاء بينهم وبين التجار.
وفي حديثهم لـ"عربي21 لايت"، أوضحوا أنهم يتحصلون على مبلغ يومي مقابل عملهم في الحر ما بين 100 و150 جنيه، ويحصل صاحب الفرش على المكسب الأكبر، منتقدين أحوالهم المادية والمعيشية، ومشيرين إلى أن الثمرة يجري بيعها بنحو 3 جنيهات ونصف.
وأكدوا أن مهنة بائع التين تغيرت قليلا، حيث يلبس كل منهم قفازا في يديه تقيه آثار أشواك التين، ومعه "ماكينة" تغليف وأطباق بلاستيكية تحوي 10 ثمرات تباع بـ30 جنيها.
رزق للنساء
على جانب آخر من الطريق تجلس نساء قتلهن العوز وأخرجتهن الحاجة فقررن الجلوس على النواصي وأمام المحال التجارية، في موسم لا يتعدى الشهرين يسبق دخول المدارس وحاجة الأسر لكثير من الإنفاق.
سيدة من مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، قالت إن زوجها توفي واضطرت للخروج لبيع التين وخضروات أخرى، وأوضحت أنه موسم لا يمكن أن تفوته حيث يساعدها الدخل منه على أمور الحياة.
سيدة أخرى، تجلس في شارع تجاري بذات المدينة، وأمامها طشت صغير به نحو 50 من ثمرات التين الشوكي، بينما تحمل طفلها الصغير.
لم تعد فاكهة الغلابة
ورصدت "عربي21 لايت"، إحدى السيدات خلال توقفها أمام سيارة توزيع التين تسأل عن سعر "العداية"، لكن التاجر رفض البيع لها، بدون إبداء أسباب.
وفي حديثها لـ"عربي21 لايت"، قالت إن التين الشوكي طاله الغلاء الذي طال كل شيء في مصر، موضحة أن زوجها كان يشتري عداية التين كل عام بين 50 و100 جنيه، مستنكرة ارتفاع أسعاره.
فوائد تحت الأشواك
ورغم ارتفاع سعر التين هذا العام بالمقارنة بالأعوام السابقة، إلا أنه يمثل عشقا خاصا لملايين المصريين في حر الصيف وله فوائد غذائية وصحية.
ووفق بعض التقارير الصحفية، فإن ثمار التين الشوكي تحتوي على فيتامين "C" و"B" والماغنيسيوم والبوتاسيوم والألياف الغذائية، ما يساهم في زيادة مناعة الجسم، وخفض معدلات الكوليسترول الضار، ومستويات ضغط الدم، بجانب ما به من مضادات تقاوم السرطان، وتساهم في إنقاص الوزن.
اظهار أخبار متعلقة
ووفق تصريحات صحفية لنقيب الفلاحين حسين أبو صدام، 12 تموز/ يوليو الماضي، فإن المساحة المزروعة بالتين الشوكي في مصر تبلغ نحو 60 ألف فدان، مبينا أن الفدان ينتج نحو 15 طن فيما يتراوح سعر الطن من 18 إلى 20 ألف جنيه.
وفي حديثه لفضائية محلية، 4 تموز/ يوليو الماضي، أكد وكيل وزارة الزراعة بالوادي الجديد مجد المرسي، أن التين الشوكي أحد الكنوز الزراعية، موضحا أن بذوره يتم عصرها لاستخراج زيت له استخدامات طبية سعر الكيلو منه يصل 1000 دولار.
وبحسب تقرير منصة (tridge) مركز المصادر العالمية للأغذية والزراعة، فإن مصر صدرت نحو 3.91 ألف طن تين شوكي عام 2021 بقيمة بلغت حوالي 10 ملايين دولار.