واختلف المؤرخون حول بداية موائد الرحمن، فمنهم من يرجعها إلى عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، ومنهم من نسبوها لعهد هارون الرشيد، وهناك من يرجعها إلى عصر أحمد بن طولون، وآخرون نسبوها إلى عهد المعز لدين الله الفاطمي.
البداية مع ابن طولون
وفي مصر تحديدا يعود تاريخ موائد الرحمن إلى عهد أحمد بن طولون حيث يعتبر أول من أقامها بحسب المؤرخين، وكان يقوم بجمع كبار التجار والأعيان في مصر في أول يوم من شهر رمضان على الإفطار، ثم يلقي عليهم خطبة يذكر لهم فيها، أن الغرض من المائدة هو أن يذكرهم بالإحسان والبر بالفقراء والمساكين.
أمر ابن طولون أن تظل هذه المائدة موجودة طوال شهر رمضان، كما أنه طلب من التجار وكبار الأعيان أن يفتحوا منازلهم، ويمدوا موائدهم للمحتاجين. وفي عهد الفاطميين أطلق على موائد الرحمن "سماط الخليفة" وقد كان العاملون في قصر الخليفة يقومون بتوفير مخزون كبير من الطعام، ليكون كافيا لأكبر عدد ممكن من المصريين.
شروط جديدة
وهذا العام وضعت بعض الشروط لعمل موائد الرحمن في بعض المدن الكبرى ومنها محافظة الجيزة التي وضعت عدة شروط أبرزها، ضرورة التقدم بطلب مدموغ من الحي التابع له، والذي ستقام المائدة فيه.
Embed from Getty Images
واشترطت سلطات المحافظة كتابة تعهد، بأن تقام المائدة في مكان بعيد عن الطريق العام حتى لا تعطل حركة المرور، وتوفير شروط الحماية والأمان، وذلك من خلال الحصول على موافقة بتوقيع من قطاع الحماية المدنية، وفي نهاية المائدة، عدم تراكم القمامة وذلك من خلال تعهد بالتعاون مع هيئة نظافة الحي.
وأكدت السلطات أنه يحظر إقامة أي موائد من شأنها إشغال الأرصفة أو الطريق العام، كما يحظر إقامة أي سرادقات أو موائد على الأراضي الفارغة قبل الحصول على التراخيص اللازمة لذلك.
بين وسط البلد والأحياء الشعبية
وتختلف الموائد وطريقة إعدادها وتوزيع وجباتها باختلاف الأماكن، فمثلا وسط البلد أي قلب القاهرة يختلف عن الأحياء الشعبية.
ففي وسط البلد تقوم الموائد بتقديم الوجبات الجاهزة، وبعضها تقوم بتوصيلها إلى مقار المؤسسات والشركات.
ولأنه المقر المركزي للحكومة والمحور المروري الأبرز بالعاصمة، يفد إلى وسط البلد يوميا الآلاف لقضاء مصالحهم، أو الذهاب لعيادات الأطباء ومعامل التحاليل، أو حتى المارين بها في طريقهم إلى مناطق أخرى، فإن موائد الرحمن في "القاهرة الخديوية" هي ملاذ من تقطعت بهم السُبل قبل موعد الإفطار وليس الفقراء والمحتاجين فقط.
اظهار أخبار متعلقة
غير أن الفئة الأبرز من رواد موائد الرحمن بوسط البلد، هم العاملون بالمنطقة، بداية من "السيّاس" مرورًا بأفراد الأمن الخاص وصولا إلى الموظفين الذين تضطرهم الظروف إلى البقاء في أعمالهم إلى ما بعد الإفطار، ولذلك تشتهر موائد الرحمن في وسط البلد بتقديم الوجبات الجاهزة، وبعضها تقوم بتوصيلها إلى مقار المؤسسات والشركات.
وعلى العكس تماما في المناطق الشعبية حيث تقام السرادقات والموائد الضخمة على مناضد كبيرة تضم أعداد كبيرة من الصائمين، يكون أغلبهم من الفقراء والمحتاجين وقليل ممن تقطعت بهم السبل أو يؤدون أعمالهم، ويتم تجهيز الوجبات ووضعها على المناضد بحيث يتجاور الجميع معا في تناول وجبة الإفطار.
مسيحي يعد مائدة الرحمن
والملفت في مصر أن إعداد موائد الرحمن لا يقف عند المسلمين فقط، بل هناك مسيحيون مصريون يقومون بإعداد هذه الموائد كنوع من التعبير عن الترابط الاجتماعي والحفاظ على الوحدة الوطنية ومن بين هؤلاء، وجيه كامل بانايوثي، وهو صعيدي من قنا، يقطن في حي شبرا، ويحرص على موائد الرحمن منذ 44 سنة.
وقال بانايوثي لبرنامج "صباح الخير يا مصر"، المذاع على القناة الأولى والفضائية المصرية: "بنقول الله محبة، والكلمة دي إحنا صادقين فيها في مائدة الرحمن، ويا رب يديمها علينا نعمة، وبداية المائدة كانت فكرة صغيرة من أحد الأصدقاء، وكلمنا اتحمسنا لها، وكنا شباب صغيرين ووقفنا في ضهره".
مضيفا: "وجبة الإفطار تتكون من صنفين، هما الخضروات والأرز واللحم، والصنف الآخر كيس به سلطة ومشروب، وكل يوم تختلف فيه الوجبات عن اليوم السابق.
وأشار إلى أنّ المائدة بدأت صغيرة بـ4 مناضد في أرض فضاء، كانت ملك والده، لكنّها تحولت إلى مائدة ضخمة، يعد فيها الجيران، الأكل للصائمين، بعدها تم جلب طباخ متخصص لصنع الطعام.
مثال للتكافل الاجتماعي
وفي سياق تعليقه يرى الداعية والباحث الشرعي مصطفى إبراهيم أن موائد الإفطار الرمضانية هي إحدى صور التكافل الاجتماعي المحمودة والمفيدة في العالمين العربي والإسلامي، مضيفاً، أنها أيضاً إحدى صور إخراج الزكاة والصدقات وبالتالي تطهير الأموال مما اختلط بها من الحرام.
اظهار أخبار متعلقة
وأضاف لـ"عربي21 لايت": أن الإٍسلام يدعو إلى التصدق وبذل المال في سبيل الله، لافتاً إلى أن الزكاة هي أحد أركان الإسلام الخمسة، أي أحد الدعائم التي يقوم عليها الدين الإسلامي، مشيرا في الوقت ذاته إلى الأجر الكبير للصدقة.
وأوضح أن رمضان موسم الطاعات والحسنات ولذلك يتسابق أهل الخير فيه إلى البذل والعطاء والتقرب إلى الله تعالى، ومن أبرز صور فعل الخير موائد الرحمن التي تنتشر في ربوع مصر والعالم الإسلامي وهذا وجه من أوجه الخير التي تزيد المودة والترابط بين الناس.
وفي نهاية حديثه دعا إبراهيم فاعلي الخير إلى الاستمرار في تقديم العون لمحتاجين طوال أشهر السنة، والتقرب إلى الله في كل وقت، والسعي لمعاونة المعسرين.
ضرورة في ظل الأزمة الاقتصادية
أما الباحثة الأسرية والاجتماعية منال خضر، فترى أن موائد الرحمن أصبحت واجبا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الناس بمصر، فضلا عن أنها من عادات و تقاليد الشهر الكريم، لافتة إلى أنها تجمع بين الناس وتحافظ على توادهم.
وأضافت لـ" عربي21 لايت"، أن موائد الرحمن لا تتم فيها إراقة ماء وجه المحتاجين بل تحافظ على مشاعرهم وتحفظ ما وجههم، حيث لا يطلب المحتاج الطعام بل إن القائمين على الموائد هم الذين يلحون على العابرين ويناشدونهم لكي يتناولوا وجبة الإفطار عندهم وليس على مائدة أخرى، وهي صورة غريبة أن يكون المتصدق هو الذي يناشد من يأخذ الصدقة ويطلبه ويلح عليه، وليس العكس كما يحدث عادة.