"كرباج ورا يا أسطى".. جملة طالما قالها المصريون في الشارع لسائق العربة "الكارو" أو "العربجي" صاحب مهنة نقل البضائع والأفراد لقرون والذي يسميه المصريون "علي عوض" على اسم شيخ مهنة المكاري في ثلاثينيات القرن الماضي، لينتبه لوجود أطفال يتعلقون بمؤخرة عربته.
علي عوض، الذي أصبح رمزا لتلك المهنة، كان يمتلك "عربخانة" بمنطقة العباسية وسط القاهرة، يتجمع فيها الحمير والبغال والجِمال بعد يوم عمل شاق لهم ولأصحابهم الذين كانوا يطلق عليهم اسم "المكارية" أو "المكري" أو "الحمّال"، وهو الذي يحمل الأفراد والبضائع لنقلها لقاء أجر.
"أول ترخيص"
تلك المهنة، التي بدأت في مصر مع نهاية القرن الـ17، وراجت في القرن الـ18، وجرى منحها التراخيص اللازمة في القرن الـ19، ظلت صامدة طوال القرن الـ20 برغم التقدم العلمي وتطور وسائل النقل، إلا أنها شهدت تراجعا لافتا خلال العقدين السابقين.
وصدر أول ترخيص لمكاري أو حمّال عام 1873، يسمح له بالانتقال بحماره في القاهرة وحمل الركاب ونقل البضائع، لقاء 60 قرشا، فيما جرى منح الجِمال رخصة نقل الحجيج إلى بلاد الحجاز أيضا.
والمكارية، أو العرجية حاليا، كانت لهم تجمعات بكل مدينة مصرية، وبكل حي من كل مدينة، بل وبكل موانئ مصر ومحطات قطاراتها، فيما كانت واقعة الخلاف الشهيرة على الأجرة بين حمّال مصري وراكب مالطي ذريعة لتدخل بريطانيا واحتلالها مصر عام 1882، ولمدة 74 عاما.
"مشهد لا يُنسى"
وكانت صفوف سيارات الكارو الممتدة لعدة كيلو مترات على طريق (ترعة الإسماعيلية- القاهرة) حيث مدخل العاصمة من منطقة مسطرد بمحافظة القليوبية، مشهدا يوميا منذ الفجر، ومنه إلى ميادين المطرية، وعين شمس والحلمية ومصر الجديدة.
عشرات من عربات الكارو يقودها العربجي أو سائق الكارو وبجانبه زوجته أو نجله العربجي المنتظر، كانت تخترق ظلام ما قبل الفجر والضباب "الشبورة" في الصباح لتصل قبل أن يستيقظ سكان القاهرة لتبيعهم خيرات الريف المصري من فواكه وخضروات وسمن وجبن ودجاج، وغيرها.
وهو المشهد الذي ينتهي بعودة عربات الكارو، يتقدمها الأحصنة والبغال والحمير المنهكة من الحر والجوع، بعد بيع البضائع، وجني بعض الأرباح، والاستعداد ليوم جديد مع فجر جديد.
"حضور سينمائي"
وسجلت كاميرات السينما المصرية على مدار نحو 100 عام مشاهد العربجي، والعربة الكارو، والحنطور، التي تباينت بين مشاهد العشق والغرام في كورنيش النيل ومدن كالإسكندرية، وبين لقطات العربجي داخل الحارة المصرية، وهو يقول كلمته الشهيرة مخاطبا حماره أو حصانه بالسير أو التوقف عبر كلمتي: "شي وحا".
اظهار أخبار متعلقة
وحمل فيلم بطولة الممثل محمود ياسين وشويكار اسم "العربجي"، والذي تم إنتاجه عام 1983، عن حياة عربجي لا يرضى عن حياته ومهنته، وتأخذه ضربة حظ إلى عالم المجون.
"إلى المتحف"
أما الآن أصبح حال أحفاد علي عوض، ووارثي مهنته في تراجع مستمر، بل إن عربة الكارو تكاد تكون اختفت تماما، وبقي أن تنتقل إلى المتاحف ليراها الأحفاد كإحدى عجائب التراث الشعبي المصري.
وذلك وسط زحام رهيب من سيارات النقل الأجرة والتروسيكل الصيني، ذلك الغول الذي دخل مصر قبل نحو 15 عاما، وابتلع كل الأعمال لما يمثله من سرعة انتقال وخفة في الشوارع وأجر مناسب.
اظهار أخبار متعلقة
ومن قلب تجمع قديم في إحدى المدن المصرية كان يضم قبل سنوات العشرات من عربات الكارو؛ يجلس سائقا كارو فقط على الأرض قرب عربتيهما وبجوار حصانيهما منتظرين الرزق القادم من إحدى المحلات التجارية أو من أحد الأهالي لنقل بعض البضائع أو الحمولات.
وتحدثت "عربي21 لايت"، معهم عن وضع مهنة سائق الكارو اليوم، وكيف كانت قبل سنوات؟ وعن أسباب تراجعها؟ وكيف يتعاملون مع حيواناتهم؟ وأهم البضائع التي تبقت لينقلوها بعيدا عن تغول التروسيكل على المهنة الضاربة في تاريخ وتراث الشعب المصري.
"لا يعلم بنا إلا الله"
يقول أحد العربجية بينما يجلس على الأرض بجوار سائق آخر أكبر منه سنا: "الكارو كانت كل شيء في السابق، والآن التروسيكل والتوكوتك أسرع للزبائن"، ليرد الثاني قائلا: "نحن الآن لا شغلة ولا مشغلة"، في إشارة إلى توقف أعمالهم.
وأكد الأول أنه "قبل سنوات كان ينقل بضائع للمتاجر والأهالي مثل مواد التموين كالسكر، والزيت، والحبوب من الذرة والقمح والأرز، ومواد البناء كالأسمنت والحديد والأخشاب والطوب الأحمر والبلاط".
ولفت إلى أنه "الآن التروسيكل سرق كل تلك المهام نظرا لسرعته في الانتقال"، موضحا أن "أصحاب المحلات يضطرون للجوء إلى العربجي فقط لحمل الأخشاب الطويلة التي لا يستطيع التروسيكل حملها والكراسي والحديد، أما البضائع الخفيفة فلا".
وقال إن "مكان التجمع هذا بالشارع الذي أجلس فيه وعربجي آخر فقط، كان يعج سابقا بعربات الكارو والأحصنة التي كانت تقف في 3 صفوف متجاورة بطول الشارع".
وأشار إلى أن "كل مدخل للمدينة كان به تجمع للكارو، وكل محجر رمل وطوب وأسمنت به نحو 20 عربة كارو، وكذلك يوم السوق الأسبوعي للمدينة، ولكن الآن في كل موقع عربة كارو واحدة فقط"، موضحا أن "أجرة النقلة من 30 إلى 50 جنيها، وفي السابق كانت من جنيه إلى 3 جنيهات".
ولفت العربجي الثاني، إلى جانب آخر من أزمتهم وهي "غلاء أسعار طعام الحيوانات من البرسيم والتبن والعلف"، موضحا أن "شيكارة الذرة الصفراء من 800 إلى 850 جنيها"، لافتا إلى أن "غلاء الأسعار على العربجي جعله في ضيق"، خاتما بقوله: "أيام لا يعلم بيها إلا الله".
"كأحد أبنائي"
والعربة الكارو تصنع من الخشب المقوى بالحديد لتحمل حمولة قد تصل 3 أطنان، وتصنع في ورش خاصة اندثرت الآن، وقلت أعمال ما تبقى منها بحسب سائق الكارو الذي قال لـ"عربي21 لايت": "يوجد ورش قليلة ونجارون متخصصون في تصنيعها في مدينة بنها ليس كما كان في السابق".
اظهار أخبار متعلقة
ولفت إلى أنه يطعم حصانه شعيرا وذرة وبرسيما وأنه يضعه في حظيرة في الطبق الأرضي في بيته، مشيرا إلى أنه "رأسمالي الذي أحافظ عليه كأحد أبنائي"، منتقدا من يضربون الأحصنة واصفا إياهم بـ"الظلمة".
"لن تعود"
عربجي آخر، أكد أن مهنة الحنطور كانت من المهن الرائجة بجانب الكارو ولكنها الآن اختفت تماما مع حضور التوكتوك والدراجات البخارية.
وعن مهنته قال لـ"عربي21 لايت"، إنها "انقرضت بشكل كبير"، وإنه يعمل بها "لنقل اللحوم إلى أحد محلات اللحوم في مدينته فقط، وينهي ذلك العمل ويعود لبيته دون عمل آخر، وأنه لولا ذلك المحل لترك المهنة".
وأضاف: "كنا زمان نقف أمام المحلات لنقل البضائع بكل أنواعها، ولكن التروسيكل هو السبب في انهيار مهنة الكارو"، مؤكدا أنها لن تعود مرة أخرى، وأن تمسكه بها مؤقت.
"جمع القمامة"
لكن، العربجي، وعربته الكارو، حالة ما زالت تخترق الأحياء الشعبية وشوارع العاصمة القاهرة المزدحمة بالسكان، مع كل فجر، حيث يستخدمها بعض عمال النظافة في جمع القمامة ونقلها وانتقاء "الروبابيكا" والمواد التي يمكن تدويرها لبيعها وإعادة تصنيعها.
كما أن لتلك المهنة استخدامات عديدة في ريف مصر، ولكن عبر عربة حديدية تختلف عن تلك الخشبية التي يجرها حصان أو فرس، ليجرها حمار، أو بغل، لنقل طعام الحيوانات كالبرسيم، ونقل المحاصيل الزراعية في مواسم الحصاد.