"ننتظرها كل عام ونعد الشهور والأيام، حتى نبدأ الاستعدادات، وتعود ساحة الشيخ جودة، وضريحه قبلة المريدين والزوار".
كلمات من القلب بدأ بها حديثه لـ"عربي21 لايت"، الشيخ توفيق (70 عاما)، أحد المحتفلين بمولد العارف بالله الشيخ جودة إبراهيم، أحد أقطاب الطريقة "النقشبندية الخالدية الجودية"، الكائن بمدينة منيا القمح بمحافظة الشرقية شمال القاهرة.
الاحتفال الذي بدأ مطلع أيلول/ سبتمبر الجاري، ويجري كل عام في هذا التوقيت ولمدة أسبوع، حضره وفق الشيخ توفيق، لا يقل عن 10 آلاف مريد ومحب لأولياء الله الصالحين وعاشق للشيخ جودة، الذي يعد أحد الذين قاموا بنشر الطريقة "النقشبندية" إحدى الطرق الصوفية المعتمدة رسميا في مصر.
"عشق لا ينتهي"
وعن ما يجري خلال أسبوع الاحتفال، أكد الشيخ، أنه يبدأ يوميا بعد صلاة الظهر تجمع المريدين والمحتفلين بالضريح وبساحة المسجد الكائن به الضريح والذي يحمل اسم الشيخ جودة، وتابع لوزارة الأوقاف المصرية.
ولفت إلى أن هناك "خدمة" قائمة طوال أيام الاحتفال تقدم للزائرين ما طاب من الطعام من اللحم والأرز والخبز، وكذلك الفاكهة كالبلح والشاي وغيرها من المشروبات والأطعمة.
اظهار أخبار متعلقة
وبين أن أهل الخير كثيرون، ولا تنقطع هباتهم ونذورهم وهداياهم يوميا، وهناك من يقوم على طبخها وتوزيعها على المريدين، مشيرا إلى أن القائمين على "خدمة" مولد سيدنا الحسين، والسيدة زينب والموالد الكبرى يقومون بإمداد مولد الشيخ جودة ببعض اللحوم والأطعمة.
Embed from Getty Images
وبين أن الاحتفال الأهم يكون ليلا بعد صلاة العشاء حيث يتجمع أكبر عدد من الأهالي بينهم مسنون وأسر كاملة من النساء والأطفال لزيارة الضريح وقراءة الفاتحة للشيخ، وحضور الحضرة الليلية وسماع الأناشيد الدينية ومديح النبي الكريم داخل الضريح.
وذلك إلى جانب تجمع الأهالي داخل خيمة لسماع الأغاني والمديح الشعبي الذي يصاحبه موسيقى، ويكون عبارة عن مديح للنبي وآل البيت وذكر بعض القصص والنوادر، مع "الذكر" وهو التمايل يمينا ويسارا للمتصوفة الواقفين في صفين على أنغام الموسيقى و الأناشيد.
"قصص أسطورية"
ويحكي الشيخ، أن احتفال هذا العام هو الاحتفال المائة بمولد الشيخ جودة وأنه شخصيا نال العهد الصوفي على يد الشيخ أحمد البدوي عيسى جودة خليفة نجل الشيخ عيسى نجل الشيخ جودة، الذي مازال على قيد الحياة، والذي منعته حالته الصحية هذا العام من ركوب حصانه وقيادة الموكب الذي كان يطوف سنويا شوارع مدينة منيا القمح.
وأوضح أنه كانت هناك قطعة من الأرض واسعة باسم "الساحة"، هي مقر الاحتفال السنوي الدائم، الذي كان يحضره الآلاف، مع وجود ألعاب الأطفال ولكن طالت تلك الأرض قبل سنوات يد البناء وتآكلت ولم تعد مقرا لاحتفال مولد الشيخ.
وقال الشيخ توفيق، إن الضريح يحوي جثمان الشيخ جودة، وهناك ضريح ثان لنجله ووريثه الشيخ عيسى جودة وزوجته وابنه، ويؤكد أن للشيخ جودة كرامات عديدة يتناقلها مريديه على مدار سنوات.
وحكى أن هناك قصصا أسطورية عن الشيخ بعضها لا يُصدق، وبينها أن "شخصا جاءه حاملا نذرا من المال، فلم يجد الشيخ فأقنعه أحد الأشخاص وكان خفيرا بانتظار الشيخ في بيته، وأعد له مكيدة وذبحه وألقى بجثمانه خارج قرية العزيزية بلد الشيخ المجاورة لمنيا القمح وحصل على النذر".
ويضيف أن "الحكاية كما سمعها وهو صغير ويسمعها كل عام أن أهل القتيل اتهموا الشيخ، الذي دعا الله أن يُظهر براءته، فما كان من جثة الذبيح إلا أن نطقت مخبرة عن القاتل ومكان السكين مبرئة الشيخ"، وفق ما يرويه البعض، كرواية أسطورية عنه.
اظهار أخبار متعلقة
والشيخ هو جودة بن السيد بن إبراهيم المنتهي نسبه إلى الإمام الحسين بن علي، وولد في قرية العزيزية بمدينة منيا القمح 1847م، ونال عهد الطريقة "النقشبندية" عن الشيخ أحمد ضياء الدين النقشبندي.
"بكل قرية وبرعاية الدولة"
وتمتد احتفالات الصوفية في مصر على مدار العام، أهمها الاحتفال والاحتفاء بكل بقاع مصر بالمولد النبوي الشريف الذي يحل هذا العام في 26 أيلول/ سبتمبر، والاحتفال بميلاد "السيدة زينب"، و"السيدة نفيسة"، و"السيدة عائشة"، والإمام "الحسين بن علي"، والإمام "على زين العابدين" وغيرهم من آل بيت النبي، في مصر القديمة بالقاهرة
تلك الاحتفالات يشارك بها الكثير من المصريين، ولها ما يبررها من حب لآل بيت النبي الكريم الذين خرجوا إلى مصر إبان مقتل الإمام الحسين بن علي، ويوجد بكل قرية أو مجموعة من القرى المتجاورة وبكل مدينة احتفال متوارث بمولد أحد العارفين بالله أو ما يطلق عليهم أولياء الله الصالحين.
ورغم أن أغلب المحتفلين قد لا يعرفون شيئا عن تاريخ من يحتفلون بمولده؛ إلا أنها أصبحت عادة ترعاها الدولة المصرية منذ عقود.
وبحسب تقارير صحفية عديدة عن الاحتفالات بالموالد الشعبية فإنها بدأت منذ العصر الفاطمي، (973- 1171م)، الأمر الذي انتهى بعهد الدولة الأيوبية (1174-1250م)، ثم ازدهر بعهد المماليك (1250-1517)، لتمنعها الدولة العثمانية (1517- 1805)، ويعيدها الاحتلال الفرنسي (1798- 1801)، وينفق عليها، فيما اهتم بها حكام مصر منذ 1952.
"موسم لهؤلاء"
كما أن تلك الاحتفالات وبحسب متحدثين لـ"عربي لايت"، فرصة سنوية ليجني منها القائمون على الأضرحة بعض الربح من التبرعات والهبات والهدايا من قبل المريدين.
وذلك بجانب ما تمثله تلك الاحتفالات من فرصة لتجار الحلويات وألعاب الأطفال والباعة الجائلين والسريحة لبيع بضائعهم للتجمعات التي تصل لمئات الآلاف بموالد الحسين والسيدة زينب بالقاهرة، وتتعدى الآلاف بموالد القرى والمدن.
كما تمثل تلك الاحتفالات فرصة لرواج بعض المهن المتراجعة مثل الإنشاد الديني، والفرق الشعبية والطبالين والزمارين وعازفي العود ونافخي الناي، وذلك إلى جانب أصحاب محلات الفراشة والإنارة ومحلات الأطعمة وغيرها.
اظهار أخبار متعلقة
المثير كذلك أن المصريين من المسلمين والمسيحيين، يتشاركون بإقامة الاحتفالات بموالد شخصياتهم الدينية، مثل "مولد العدرا" في مصر، وهي الاحتفالات التي يحضرها كلا الطرفين بغض النظر عن ديانته، ما يفسره البعض بأنه إرث تاريخي.
"أهم الموالد"
ومن أهم موالد العارفين ومؤسسي الطرق الصوفية في مصر أبو الحسن الشاذلي، مؤسس الطريقة الشاذلية، والمولود بالمغرب والمتوفى في مصر (1196- 1258م)، والمدفون بـ"وادى حميثرة" فوق جبال البحر الأحمر، ويحتفل بمولده نحو 5 ملايين مصري وعربي قبل أسبوع من وقفة عرفات سنويا.
وهناك مولد عبدالرحيم القنائي المولود بالمغرب والمدفون بقنا في صعيد مصر (1127- 1196م)، وأبي الحجاج الأقصري المولود في بغداد والمتوفى بالأقصر في جنوب مصر (1150- 1243م).
ومولد أحمد البدوي بمدينة طنطا في دلتا مصر، والمولود بالمغرب والمتوفى بمصر (1200- 1276)، ومولد إبراهيم الدسوقي بمدينة دسوق بمحافظة البحيرة غرب الدلتا، المنسوب له الطريقة الدسوقية، والمولود والمتوفى بمصر (1255- 1296م).
وكذلك مولد سيدي المرسي أبوالعباس المولود في مرسية، إسبانيا والمتوفى بالإسكندرية شمال مصر (1219-1286م)، من أشهر وأكبر الموالد التي يحضرها مئات الآلاف سنويا.
ومن أشهر موالد المسيحيين مولد السيدة "مريم العذراء"، و"الشهيد مارجرجس" بمدينة القاهرة وكفر الدّوار وميت دمسيس، وميلاد "القديسة دميانة" بمحافظة الدقهلية، وميلاد "مارمينا" بالصحراء الغربية في قنا.
"6 آلاف ضريح"
ويقوم على الموالد الخاصة بالمسلمين والتي تقام لنحو 6 آلاف ضريح مجموعة كبيرة وممتدة عبر التاريخ من الطرق الصوفية، تبلغ 77 طريقة مسجل منها بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية 67 طريقة، أهمها "الرفاعية"، و"البدوية"، و"الدسوقية"، و"الشاذلية"، و"القنائية"، و"القادرية"، و"الخلوتية"، و"العزمية".
وفي مصر نحو 11 مليون صوفي وفقا للمجلس الصوفي الأعلى، وهو الرقم الذي زاد عليه شيخ مشايخ الطرق الصوفية الدكتور عبدالهادي القصبي، 4 ملايين دفعة واحدة بقوله في كانون الأول/ ديسمبر 2017، أن هناك أكثر من 15 مليون صوفي، بمصر.
Embed from Getty Images
والمثير أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها المصريون من فقر وبطالة وغلاء أسعار لم تمنع الصوفية من الاحتفال بأعياد ميلاد أقطابهم الصوفية، حيث يواصلون تعليق الزينة أمام مساجد وأضرحة أقطابهم، إلى جانب تسيير المواكب بربوع الريف والمدن.
وهو ما يتخلله ذبح الذبائح وتوزيع اللحوم وفرش الصيوانات واستقبال الفقراء لإطعامهم، إلى جانب توزيع الحلوى والشربات، مع تنفيذ النذور وخاصة للنساء التي تلتحق بالمواكب لتوزيع النقود والشيكولاتة وغيرها.